بقلم بيار سمعان

 

تعتبر قمة بيروت العربية (2002) من اهم القمم التي عقدتها الجامعة العربية، لكن قمة بيروت الاقتصادية والانمائية تعتبر الأكثر هزالة بالنسبة لمستوى تمثيل القادة العرب فيها.

فاعتذارات الرؤساء والقادة العرب «بالجملة» كانت الميزة التي طبعت هذه القمة. ولولا حضور الرئيسين الموريتاني والصومالي وتعديل امير قطر، في آخر لحظة، موقفه المعلن، والذي فاجأ حضوره الجميع، لكانت قمة من الدرجة الثانية او الثالثة. فما هي اسباب فشل قمة بيروت الاقتصادية، من ناحية التمثيل، وما هي المؤثرات التي ساهمت في فشلها؟

< لبنان وسياسة التعطيل.

جاءت القمة العربية الاقتصادية في ظرف سياسي، يعاني منه لبنان من حدة الخلافات السياسية، ومن الانقسامات الحادة حول الحكومة التي طال انتظارها ثمانية اشهر، دون ان يتوافق اللبنانيون فيما بينهم على حلحلة العقد الصغيرة والتي تحولت الى ازمات متتالية. ويبدو حتى الآن ان كل فريق او تكتل سياسي، لا يزال متمسكاً بمواقفه، ويرفض النقاش في اية تنازلات مطروحة.

فلبنان اليوم يفتقر بالنسبة للداخل  والخارج، للقدرة التنفيذية، وهو عاجز عن معالجة القضايا  الداخلية الضيقة، وتسوسه حكومة تصريف اعمال، يعتبر فيها كل وزير ولي امره وصاحب القرار النهائي. حتى حكومة تصريف الاعمال تعاني بدورها من الانقسامات الداخلية، بالاضافة الى عجزها الدستوري عن اتخاذ القرارات واقرار البرامج والخطط.

فالعجز في تأليف الحكومة يعكس واقع الانقسامات  الجذرية داخل البلاد، على خلفية النزاع السني- الشيعي، والسعودي-الايراني، وعلى خلفية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وتسعى الآن الى تدويلها، من جراء استمالة المزيد من الدول الداعمة لهذا القرار.

ورغم كل الاعتبارات وردود الفعل من قبل الافرقاء المعنيين، فإن الدولة اللبنانية بكاملها تبلغت مؤخراً بواسطة المبعوث الاميركي هيل ان تنفيذ العقوبات سيطبق بصرامة على جميع الاطراف والشخصيات التي لا تلتزم بقرار المقاطعة. وهذا يشمل الشخصيات السياسية ورجال الاعمال والمصارف والدول المعنية.

هذا الموقف دفع حزب الله على لسان الشيخ على دعموش الى اتهام اميركا انها تحرض اللبنانيين على محاصرة المقاومة بعد ان فشلت في سوريا، وان الادارة الاميركية تحاول الضغط على لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً، من بوابة القمة العربية الاقتصادية، لكي يتخلى لبنان عن دوره في دعم المقاومة واحتضانها. واكد حزب الله ان لبنان لن يكون جزءاً من المحور الاميركي – الاسرائيلي.

ان فشل القمة العربية الاقتصادية ، حسب مفهوم حزب الله، يعود الى قرار اميركي لعدم تعويم لبنان مالياً، في مرحلة تضيق بها الولايات المتحدة الخناق على لبنان وحزب الله.

< امل وليبيا وسوريا

قبل القمة، نشرت وسائل اعلامية مقربة من 8 آذار ان القمة العربية الاقتصادية ستفشل بسبب التدخلات الخارجية.

لكن لا يتجاهل احد ان من نزعوا اعلام ليبيا من شوارع بيروت واستبدلوها بأعلام «امل» لم يأتوا من المريخ، بل من الداخل اللبناني. وان من هددوا بقطع طريق المطار على الوفد الليبي ومن هددوا بعدم منح الوفد الليبي تأشيرات دخول الى لبنان لم يأتوا من الهند، بل من بيروت والاراضي اللبنانية.

كما ارتفعت اصوات تطالب بإلغاء هذه القمة في حال عدم دعوة سوريا الأسد لحضورها. وكانت سوريا قد استبعدت من  الجامعة العربية في عام 2011، واتخذت الجامعة قراراً بعدم دعوة النظام السوري للمشاركة في اية قمة عربية.

وهكذا اصبح القرار العربي مادة انقسام لبناني لمواجهة قمة اقتصادية، قد تكون منافعها كثيرة لو اجمع اللبنانيون على انجاحها رافضين تحويلها  الى مادة اخرى تكرّس حدة انقساماتهم.

الرئيس نبيه بري، زعيم حركة امل ورئيس مجلس النواب، استفاد على مدى العقدين الأخيرين من موقعه  ومن دعم المقاومة له ليكرّس نظام «الترويكا» ولتوظيف المناصرين، في بلد اختصرت فيه الزعامات الاحزاب والطوائف.

ولا ينكر احد غياب مشاعر التناغم بين بري و الرئيس عون من جهة وبري وباسيل من جهة اخرى. فعون وباسيل المصممان على «استعادة» «حقوق المسيحيين» وضرب تركيبة نظام بثلاثة رؤوس اصطدما اولاً بأول بالرئيس بري  الذي يسعى ضمناً مع حزب الله الى تكريس المثالثة ولو عرفاً، فيما يجهد الرئيس عون الى استعادة بعض صلاحيات الرئيس المسيحي. كما يأمل باسيل ان يحتفظ بالثلث الضامن لمواجهة خصومه داخل الحكومة وخارجها. ولم  يتردّد باسيل من مواجهة بري كلامياً وسياسياً ومن تصويب بعض الانتقادات لحزب الله، كما فعل مع خصومه المسيحيين. فالاستئثار بالسلطة، كما يراه خصومه، هو ما يعطل تأليف الحكومة… وقد تبلورت خلال الاجتماع بكركي  بدعوة من البطريرك الراعي.

فمشاعر الجفاء والعداء المبطّن تجاه رئيس مجلس النواب، سمحت للأخير باستغلال القمة الاقتصادية لإثارة موضوع حضور ليبيا التي «ترفض التعاون مع الطرف اللبناني لكشف مصير الإمام موسى الصدر «المغيّب». واثارة هذه القضية توفر دعماً شيعياً مضافاً على شعبية «الاستاذ» وسبيلاً لتوجيه الطعنات الى خصوم الداخل، ولو على حساب المصلحة العامة.

ورغم عدم مسؤولية لبنان عن غياب سوريا بقرار عربي، حاول فريق 8 آذار اقحام لبنان في النزاعات العربية العربية، وكأن الانقسامات الداخلية لا تكفي لتعطيل نهوض الدولة من كبوتها.

ومرة اخرى يجري اقحام لبنان في جوهر النزاع السعودي الايراني، من بوابة الشام، رغم معرفة فريق 8 آذار ان قرار دعوة سوريا هو خارج صلاحيات القرار اللبناني.

< الانقسامات العربية – العربية

ومن العوامل التي ساهمت بفشل القمة الاقتصادية في بيروت، من ناحية التمثيل والحضور القيادي، هي حال الانقسامات العربية التي استغلت حالة عدم الاستقرار السياسي في لبنان لتعتذر عن حضور القمة.

فالعرب منقسمون فيما بينهم بين محورين:

الاول سعودي، اماراتي خليجي تدعمه اميركا والثاني قطري، سوداني، سوري تقف وراءه ايران.

وكانت قطر المقاطعة خليجياً قد اعلنت عدم المشاركة في قمة بيروت على المستوى القيادي، لكن يبدو ان امير قطر قرر مفاجأة الجميع بعد ان تأكد من عدم مشاركة السعودية والامارات على مستوى القيادة.

وربما حاول امير قطر تميم بن احمد تسجيل نقاط في مرمى الآخرين وقدم 50 مليون دولار دعماً للاقتراح الكويتي بانشاء صندوق للابتكارات والتطوير الالكتروني.

< تقصير الدولة

في خضم النزاعات والانقسامات اللبنانية اللبنانية والعربية العربية، توجه الانتقادات الى الديبلوماسية اللبنانية التي فشلت في الاعداد لهذه القمة عبر الاتصالات الثنائية  الهادئة والمكثفة لضمان حضور القادة والزعماء العرب، ولمعالجة بعض الخلافات الداخلية، بغية توفير مناخ ايجابي يضمن نجاح المؤتمر الاقتصادي.

فالمسؤولون اللبنانيون يتحملون بالدرجة الاولى مسؤولية فشل قمة بيروت، ليس فقط بسبب غياب الحراك الديبلوماسي، بل ايضاً لغياب ادنى تنسيق فيما بينهم، مما اكد مرة اخرى درجات التفكّك والتشرذم، قيام البعض باستعراض قوتهم الميليشياوية التي اساءت بدورها بسمعة وصورة لبنان، واثارت المخاوف على امن وحياة المشاركين في القمة.

< قمة الخلافات :

مرة اخرى، اكدت قمة بيروت الاقتصادية حدّة الانقسام داخل التركيبة السياسية وقمة الارتهان لتوصيات واوامر الخارج.

ان غياب الزعماء والقادة العرب هو رسالة مباشرة تلقاها لبنان من العرب الذين اعربوا صراحة عن استيائهم من مواقف البلد المرتمي في حضن ايران والذي سلم قراره السياسي والأمني لما يسمّى بـ «قوى الممانعة» التي تسعى الى قطع صلات لبنان بمحيطه العربي وتجعله اسير الآجندا الايرانية التي يحاول «حزب الله» فرضها عليه.

ايران وسوريا الممتعضتان من استضافة بيروت للقمة العربية لن يترددا من اعاقة تأليف الحكومة اللبنانية على المدى المنظور.

ان لبنان الذي قرّر اعتماد سياسة «النأي بالنفس» تجاهل على مدى سنتين الدعوات العربية للكف عن السير بركب المشروع الايراني المعادي للعرب. لذا يدفع اللبنانيون ثمن اخطاء الطبقة الحاكمة التي تضع مصالحها الخاصة فوق المصلحة الوطنية.

فأي مستقبل ينتظره اللبنانيون في اجواء الانقسامات الحادة وغياب الروح الوطنية المسؤولة، وفي اجواء نظام يخلو من المحاسبة والمساءلة؟؟

مَن يدري؟

قد يدخل لبنان والشرق الاوسط في مرحلة جديدة من اعادة ترسيم لخريطة المنطقة، وفرز جديدة للقوى المتنازعة عليها؟؟ من هنا يمكن النظر الى قمة بيروت الاقتصادية على انها مجرّد «ابرة مورفين» للعلاقات والمشاريع العربية، بانتظار ان تتبلور الرؤية وتتضح معالم الشرق الاوسط الجديد.

لذا تبقى الانقسامات اللبنانية قليلة الأهمية بالمقارنة مع النزاعات العربية العربية والبعد الايراني في المنطقة.

لكن لم يعد مقبولاً ان تستمر الأمور على حالها. فهل دخل لبنان مرحلة جديدة من معالجة القضايا الداخلية، بعد ان اطلت على المنطقة مرحلة المواجهة العسكرية بين اسرائيل وايران وحزب الله؟

pierre@eltelegraph.com