يحلّ الانتخاب الفيدرالي الأسترالي لعام 2025 في لحظة حرجة، حيث تجد البلاد نفسها في خضمّ تفاعلات معقدة بين التحالفات الدولية، وضرورة تحقيق مرونة اقتصادية، وتلبية الأولويات المحلية الملحة. ففي ظلّ تصاعد حدة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وعودة مظاهر الحمائية التجارية، وتفاقم أزمات المناخ، من المؤكد أن نتائج هذه الانتخابات ستُعيد رسم التوجهات الجيوسياسية لأستراليا ومسارات سياستها المستقبلية.

تواجه حكومة حزب العمال الحالية، بقيادة رئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي، تدقيقًا متزايدًا بشأن تعاملها مع النزاعات التجارية المتصاعدة والضغوط المتزايدة على تكلفة المعيشة. في المقابل، يسعى حزب التحالف المعارض، بقيادة بيتر داتون، إلى ترسيخ موقعه كمدافع عن الأمن الاقتصادي للبلاد. وإلى جانب ذلك، تبرز الأهمية القصوى للعلاقات الاقتصادية الوثيقة بين أستراليا والصين، مما يضع الأحزاب السياسية أمام اختبار حقيقي في صياغة استراتيجيات تضمن النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة المتدهورة.

وقد أدى قرار الولايات المتحدة بإعادة فرض تعريفات جمركية على واردات الصلب والألومنيوم الأسترالية في عام 2024 إلى توتير العلاقات بين كانبرا وواشنطن. فبعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حالة طوارئ اقتصادية وفرض تعريفات لا تقل عن 10 بالمائة على جميع الدول في الثاني من أبريل، عبّر رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي عن أسفه، واصفًا قرار فرض تعريفة على حليف لبلاده بأنه “ليس فعل صديق”، لكنه استبعد في الوقت نفسه فرض أي تعريفات انتقامية ضد الولايات المتحدة. وفي تصريحات له خارج البيت الأبيض، استهدف ترامب صادرات لحوم الأبقار الأسترالية بشكل خاص، والتي شهدت ارتفاعًا في قيمتها لتصل إلى 4 مليارات دولار أسترالي العام الماضي، تزامنًا مع تراجع في إنتاج لحوم الأبقار الأمريكية.

وقد أكدت هذه الخطوة الأمريكية على هشاشة التحالفات التقليدية، خاصة في ضوء النهج النفعي الذي تبناه دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأولى للولايات المتحدة.

زعم داتون بأنه قادر على “تغيير رأي الرئيس (الأمريكي)” إذا ما تم انتخابه، لكن المحللين استبعدوا هذا الادعاء ووصفوه بأنه غير واقعي. وعلقت المحللة السياسية باتريشيا جيليس قائلة: “إذا لم نتمكن من الحصول على إعفاء للصلب، فماذا بعد؟”

كما فشلت محاولة أستراليا لاستخدام احتياطياتها من المعادن الحيوية، مثل الليثيوم، كورقة مساومة. وأعربت وزيرة الموارد الأسترالية مادلين كينغ عن خيبة أملها قائلة: “عرضنا الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة، لكن الولايات المتحدة قالت إننا لم نقدم أي شيء جديد”. ووصف وزير التجارة دون فاريل النزاع بواقعية أكبر: “التعريفات على لحوم الأبقار الأسترالية سترفع أسعار وجبات بيج ماك. هكذا تلفت انتباه ترامب”.

وعلى نفس القدر من الأهمية، يظل دور الصين، الشريك التجاري الأكبر لأستراليا، حجر الزاوية في الاستقرار الاقتصادي للبلاد. تستحوذ الصين على 30 بالمائة من الصادرات الأسترالية، والتي تشمل خام الحديد والفحم والخدمات التعليمية. وقد حذر المحلل الاقتصادي جون كيه من أن “عمليات البيع المكثفة في الأسواق العالمية الناتجة عن حروب ترامب التجارية تضر بأستراليا أكثر من التعريفات المباشرة. لقد وجدنا أنفسنا في مرمى النيران بين الولايات المتحدة والصين”.

لا يزال اتفاق أوكوس (الشراكة الأمنية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) يثير جدلاً واسعًا. وصفه زعيم حزب الخضر آدم باندت بأنه “هدف على ظهر أستراليا شكله ترامب”. وانتقد باندت صفقة الغواصات النووية البالغة 368 مليار دولار باعتبارها “استعانة بمصادر خارجية للدفاع لصالح الولايات المتحدة المتقلبة”، ودعا بدلاً من ذلك إلى استثمارات في القدرة على التكيف مع تغير المناخ والدفاع السيبراني.

ومع ذلك، دافع ألبانيزي عن اتفاق أوكوس، واصفًا إياه بأنه “حجر الزاوية للأمن الإقليمي”. وزعم داتون أنه ضروري لردع “العدوان الصيني”، مؤكدًا: “بدون هذه الغواصات، سنكون معزولين”.

وسط هذه التطورات، ظهر انقسام داخلي داخل حزب العمال، حيث تساءل السيناتور السابق دوج كاميرون عن سبب تمويل أستراليا لمشاريع البحرية الأمريكية بينما تواجه تعريفات جمركية. يعكس هذا النقاش توترات أوسع بشأن الموازنة بين العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة والمزايا الاقتصادية للتجارة مع الصين. وقد دفع هذا الجدل المحلل السياسي جون بول جاني إلى التحذير من أن “الاعتماد على ترامب للدفاع عن تايوان مقامرة. أوكوس يكشف عن تبعيتنا، لكن تنفير الصين ينطوي على مخاطر اقتصادية”.

لا يزال الاقتصاد الأسترالي متشابكًا بعمق مع الاقتصاد الصيني، الذي يستوعب 80 بالمائة من صادراته من خام الحديد ويدعم قطاعات حيوية مثل التعليم والسياحة. وعلى الرغم من الخلافات السياسية بشأن المخاوف الأمنية، فقد بلغت قيمة التجارة الثنائية بين البلدين 300 مليار دولار أسترالي (188.79 مليار دولار أمريكي) في عام 2023. وفي الواقع، أقر وزير الخزانة الأسترالي جيم تشالمرز بأنه “لا يمكننا الانفصال (عن الصين) بين عشية وضحاها. التنويع مشروع يستغرق عقدًا من الزمان”.

ومع ذلك، لا تزال هناك نقاط ضعف واضحة. فقد سلطت العقوبات التجارية الصينية التي فرضت عام 2020 على الشعير والنبيذ والفحم الضوء على المخاطر المحتملة من اتباع الولايات المتحدة في شن هجمات تجارية ضد الصين.

أما بالنسبة للانتخابات المقبلة، فإن ارتفاع أسعار الطاقة (المتوقع أن يرتفع بنسبة 9 بالمائة في الولايات الشرقية الأسترالية) يهيمن على اهتمامات الناخبين. وبينما يدفع حزب الخضر بقوة نحو تبني مصادر الطاقة المتجددة، فإن التكنولوجيا المتقدمة للصين وقدرتها التصنيعية الهائلة في سلاسل إمداد الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية والبطاريات تدعم بشكل كبير التحول الأخضر في أستراليا. ومع ذلك، أكد وزير الطاقة الأسترالي كريس بوين على أهمية تعزيز التصنيع المحلي، قائلاً: “نحن بحاجة إلى قدرات سيادية، وليس مجرد واردات صينية”.

وفي قطاعي التعليم والسياحة، ساهم الطلاب والسياح الصينيون بحوالي 40 مليار دولار أسترالي سنويًا في الاقتصاد الأسترالي قبل جائحة كوفيد-19. لكن التوترات الجيوسياسية وبطء إجراءات الموافقة على التأشيرات أعاقا تعافي هذين القطاعين، مما دفع الرئيسة التنفيذية لمنظمة الجامعات الأسترالية كاتريونا جاكسون إلى التحذير قائلة: “نحن نخسر حصة سوقية لصالح كندا والمملكة المتحدة. الأمر لا يتعلق بالإيرادات فحسب، بل يتعلق أيضًا بالقوة الناعمة”.

يركز حزب العمال بقيادة ألبانيزي في حملته الانتخابية على توفير إغاثة من تكلفة المعيشة (من خلال خصومات على الطاقة وإعانات رعاية الأطفال) واتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة تغير المناخ (مثل خفض الانبعاثات بنسبة 43 بالمائة بحلول عام 2030). ويهدف شعار الحزب، “قيادة ثابتة في أوقات غير مؤكدة”، إلى طمأنة الناخبين بشأن التزام الحزب الحاكم بتحسين الأوضاع العامة وسط تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين.

من ناحية أخرى، يطرح حزب التحالف بقيادة داتون برنامجًا يمزج بين التخفيضات الضريبية، والدعوة إلى استخدام الطاقة النووية، وتبني خطاب متشدد تجاه الصين. ويستهدف شعار الحزب، “العودة إلى الأساسيات: الاقتصاد والأمن”، الناخبين في المناطق الريفية الذين يعتمدون على صادرات التعدين إلى الصين، بينما يعد بـ “مواجهة بكين” بشأن قضايا الأمن. ويرى النقاد أن موقف التحالف ينطوي على تناقض واضح، حيث علقت باتريشيا جيليس قائلة: “لا يمكنك التهديد بفرض عقوبات على الصين بينما تتوسل إليهم لشراء خام الحديد الخاص بك”.

علاوة على ذلك، يدعو حزب الخضر إلى تقليل الاعتماد التجاري على الصين من خلال تعزيز التصنيع المحلي وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، بينما تدفع المستقلات من حزب “تيل” نحو تحقيق شفافية أكبر في الاستثمارات الأجنبية. لكن كلا المجموعتين تواجهان تدقيقًا بشأن مدى جدوى فك الارتباط الاقتصادي مع الصين.

تتجاوز الانتخابات الأسترالية لعام 2025 مجرد تنافس سياسي حزبي، بل تمثل استفتاءً على الاستراتيجية الاقتصادية التي ستتبعها أستراليا في عالم يشهد انقسامًا متزايدًا. ويؤكد انتقاد ألبانيزي للتعريفات الأمريكية وشعار داتون “أستراليا محصنة ضد ترامب” على هشاشة التحالفات التقليدية، بينما تظل المزايا الاقتصادية الهائلة للعلاقات التجارية مع الصين حقيقة لا يمكن تجاهلها، حيث توفر الاستقرار وفرص النمو على حد سواء.

على الصعيد المحلي، تبرز الحاجة الماسة إلى استثمارات عاجلة لتعزيز تحول الطاقة وتنويع قطاع التعليم في أستراليا. وعلى الصعيد الخارجي، يختبر اتفاق أوكوس والتوترات التجارية قدرة أستراليا على تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على سيادتها وتعزيز الاعتماد المتبادل في علاقاتها الدولية. وكما قال جون كيه: “العالم يراقب بينما تعيد أستراليا تعريف مكانتها ودورها”. وسواء كان ذلك من خلال البراغماتية التي يتبناها حزب العمال، أو القومية التي يروج لها حزب التحالف، أو المثالية التي يدعو إليها حزب الخضر، فإن نتائج هذه الانتخابات ستشكل مسعى أستراليا لتحقيق المرونة الاقتصادية في عصر يشهد تنافسًا متزايدًا بين القوى الكبرى.

المصدر: