
منذ اكثر من خمسين سنة كنت أعيش الحلم دون ان اعلم..كنت أعيش الربيع في قريتي الجردية ،في حقلتي العظيمة ، في حقول العزيمة ،على السجادة الربيعية الملونة بريشة الخالق وحيث تستفيق الضنية من سبات الشتاء لتتفتق براعم الربيع ويظهر جمال الطبيعة في أبهى صوره ..انها الروعة التي لاتغادر الذاكرة وتضحك الذاكرة ساخرة من اي جميل جديد.. لان ذلك كان الاجمل..
كنت يافعا اذهب الى الحقول اجمع ازهار الربيع، من البنفسج قرب العيون ..الى الأبو دويك في شير جدي وزهر دم المسيح في البساتين الغناء، كنت اجمع الصعتر من الهبطة او الهضبة .. كنت أعيش استفاقة الطبيعة واستكشف فرخ النحل معلقا في شجرة الجنارك، كنت اشبع من الشلوف والحميضة وبقايا حبات تفاح حافظ البرد عليهم ،والطبيعة تأبى الا ان تعيش كرمها .. وزينة الطبيعة هي العصافير التي تعشعش بذكاء في أعالي الأشجار بعيدا عن شيطنة الأولاد وحشريتهم..كنت أمتع النظر بزهر المشمش وكانه الثلج، وزهر الدراق الزهري وكانه ثياب العيد للصغيرات ..كنت أتنفس الهواء الربيعي العليل ولا اشبع ..كنت فرحا مع فرح الطبيعة المستيقظة من نوم الشتاء .. كنت انتظر المسحور ( انفجار نبع السكر ) المتزامن مع زهر الرمان ..
صباح الخير لكل الدنيا يواكب خيوط شمس الربيع من وراء جبال الاربعين .وبركة ينابيع بلادي تشق الصخور، وحولها الغار والقرة والجرجير ..ومغارة الزحلان سحر الطبيعة وصناعة الخالق الخلابة.
كنت أعيش الصيام برهبة متوارثة من الاجداد ، كنت اشهد انتقال الضيعة كلها الى حالة روحانية فريدة ، كنت اشعر بصدق اهلي وجيراني وغيرتهم على بعضهم،كنت اسمع عما يجوز وما لايجوز والحكم في ذلك هي القيم… وجمال الفطرة البريئة ، العميقة في النفوس ، والمتوارثة بدون صكوك..
كنت قريبا جدا من أدباء عصر النهضة ، اعيش معهم من خلال قراءة افكارهم، كنت رفيق فؤاد سليمان تحت سنديانته العنيدة التي تقاوم العاصفة ومع مخائيل نعيمة في الشخروب ومع جبران في مدينة اورفليس..كنت رفيق رشيد أيوب المشتكي والثلاثين من ال معلوف في العصبة الأندلسية في سان باولو.. كانت القراءة تخولني ان ارافق مارون عبود وكرازه المتكبر وقطيع الماعز … واحمل شنطة شارل مالك الى المحافل الدولية..
كانت اجمل ترويقة لي أغنية لفيروز من فكر عاصي ومنصور الرحباني او سعيد عقل وجبران ..كانت ام كلثوم تغني المقاهي صداحا وطربا..
كنت اعيش الربيع الجميل ولم أكن راضيا لانني كنت احلم بربيع اخر..
ربيع من صنع وانتاج شعبي تيمنا بالمغتربين المجاهدين ، ربيع من جهد اهلي وشعبي على طريق الجهاد..
ربيع ينقلني وشعبي الى واقع جميل اعيش فيه ربيع العدالة والعلم والتقدم، ربيع الانجاز والمشاركة الفاعلة في مسيرة التقدم الانساني..
عشت ربيع الطبيعة الاول في بلادي المباركة..
وعشت ربيعي الفكري الثاني في رحاب البلاد الديمقراطية الفاضلة..حيث كرامة الانسان محفوظة ومصانة سواء كان الفرد عالم ذرة او صاحب حاجات خاصة.
وفي الربيعين ازهار وورود ، وشوك وبلان زهره اصفر.. ومطبات وحواجز نفسية وطبيعية تبدو مستحيلة العبور..
لكن شعبي لا يعرف قاموسه كلمة المستحيل..
يبقى ان نعيش كلنا الربيعين معا..
اي ان ننقل الربيع الثاني الى الربيع الاول..
فتعيش بلادي الربيعين.. الربيع الطبيعي والربيع الفكري..
الربيع الفكري هو النقلة المباركة الى الضفة الثانية من مسيرة التاريخ ..حيث تعشعش الانسانية وتنمو الفضيلة .. ويزدهر الامل ..
هذا هو حلمي وحلمكم..
والحلم كبير جدا..
ان استطعنا وشاركنا في نهضة شعبنا فذلك جميل..
والا فسنودع الحلم الى اجيال جديدة …
نرجو ان تكون اكثر عزما..
وأوفر حظا..