دينا سليم حنحن – بريزبن
ما زلتُ أنتظر حافلة آخر الليل وأنا في طريق المقبرة، أستنفذُ جميع قواي حتى أصل البيت، بعد أن كشفتُ خبايا عاهري الليل أثناء مغامرتي الهامة.
أعشق مسيرتي الأسبوعية الخاصة بي، مجنون بسيرة الرصيف، وصور المركبات المتعاقبة التي تدخلني في دوامة الصحو العنيد.
أتّبعُ خارطة خاصة بي، قدماي، أسير والوطاويط تتناوب على إيقاظ الأشجار الغافية في المقبرة الكبيرة.
سأحاول التخفيف من معاناة الساكنين داخلها، ببطء سوف أحرّك قدميّ اللتين بدأتا تتعاركان على الرصيف، تتخذان المصطبة طريقا لها، تطويان الخطوات على الشارع الرطب أحيانا، صعودا ونزولا من وعلى المصطبة الحافلة بالفراغ.
أحمل الراية الذاتية داخلي، أغمض عينيّ على الذكريات، وأتهم نفسي السكرانة بالسرور، وحيدًا وتائهًا، أعيش عمرًا فوق ركام الماضي، وأدّعي متفاخرًا:
– ها أنا في القمة الآن، وصلتها قبل أن يخبو العمر ويزول. عمود الكهرباء الماثل أمامي، يشبه استقامتي في لحظة الانتظار فقط، إن حصلَ وخبا فسوف يصبح مثلي في هذه اللحظات.
خبت العمدان خلفي وأنا أترنّح بين الواحد والآخر، غارقا في دوّامة المشي، لا تنتهي الطريق، ولم تصلني الحافلة بعد، أنا بحاجة إلى خارطة توصلني إلى النوم الذي أصبح بعيدا عن جفنيّ المتآكلين، يغفوان ويصحوان للحظات.
لحظات فيهما تناول الخمر يكون لذيذًًا، الخمر الذي يرديني قتيلا بين دوّامة الأحلام ودوّامة اليقظة.
أرفض الاستيقاظ على خبر الأشياء، الأخبار تملؤني، وصياح المعذبين لم يعد على محمل الجد، أصطنع الجمال من الكأس، يحدّدُ ذاتي، ويدعني ألاحظ جمالية العالم، يجدّد وجود المكان، وإلقاء الضوء على الأحداث، يشبع جوع المعدة العقلية، لكنه يسلبني عيني الباحثة ونوازعي الأخلاقية، يقصّر صورتي الشامخة، ويقزّم من إرادتي المطلقة في تغيير الأشياء.
تتطلب إرادتي المزيد، أريد نسيان رائحة جواربي القديمة، أن أقوم بتأسيس روحي من جديد، أن أنسى النساء الخاويات، أن أُطمئن خفايا الليل لذكرى المكان، والأمر ليس عاديًا، ولا روتينيًا.
لا أريد أن أفقد كنزي الثمين الذي ادخرته من صواعق البلاد، وسواتر القتل، الجوع، الموت، القتل المتعمد، الظّمأ، الحروب، والنكسات المتكررة التي أعاقت ترميم شعبي، موطني، نفسي وحياتي.
لن أتكلم عن الخفافيش التي تركتها تجوب أعلى أسوار بلادي، فجميعها صارت تحب طيراني.
تبدّلت الخفافيش الآن، وصرتُ أركض تحتها من شجرة إلى شجرة، ربما أحظى بجزء من حيضها أو برازها، إنها إشارة الحظ القادم، الحظ في بلاد الهجرة. ها أنا الآن طليق كالعصفور، أرى وأحرّك الأشياء حسب رغبتي. عندما وصلتُ إلى آخر محفظة كونية، واسمها أستراليا، بدأت أناور الحلم بالحلم، الحلم الذي سجلته سابقًا على مصطبتي الشخصية، شخوصي موجودة في الحياة، ومن الحياة ولدوا، عدا الذين ماتوا ولم يموتوا، أو الذين ماتوا وكأنهم لم يموتوا، أو الذين ابتاعتهم الأرض، ضاعوا، تاهوا، ضلوا الطريق، وكأنهم أبدًا لم يكونوا.
ها أنا أحمل أحلامي حتى الرصيف المحاذي للمقبرة، هربتُ وتركتُ صخرتي هناك، حيثُ لا أحلام، وحتى اليقظة منها، سلبوها مني.
أريد وصول غرفتي الخاصة، لأدثر ما بقي من أحلامي، ما أزال أحتفظ بأحلام سابقة، أحلام موجودة داخل رأسي التائه، يدعوني ضجيجها إلى البكاء، أنا أبكي مثل المطر المتساقط، عِزّة، وشموخًا، وتمردًا، أبكي بطريقتي الخاصة، ولن أؤجل الضحك إن غزاني، مثل قطرات المطر الناعمة المنهمرة على ظهري الآن، لن أبقى مسكونًا بالحزن.
وقفتُ في محطة الباص، نمرته تضاعف عمري الخمسين، ما تزال الأصفار تستحوذ على حياتي، لم تصل حافلة منتصف الليل، لن تأتي، إن وصلت فلن أصعد، لن أُصعِّد حياتي المضطربة معي داخلها، ولن أدع الرّكاب، أو السائق يلاحظون انهيار قلعتي.
وضعتُ إصبعي على نبضي العالي لقلبي، وقفتُ وليس كل الوقوف وقوفًا، استطعتُ الاستقامة، ضاعَ إصبعي، بحثتُ عنه من بين الأضواء الباهتة والمتناثرة هنا وهناك، وكأني أبحثُ عن خفايا الكون.
العالم يضيع، وضاع عالمي بين الأشياء الضائعة، هويتي مسلوبة، محطّم وجودي، يغزوني التفكير العميق بالشّرور … أين اختفى إصبعي؟
مسكين، هو العالم عندما يتسامى مع عقلي، فأنا أملك جذورًا عميقة، تفكيرًا نقيًا، وحبًا عظيمًا له، لكنه لم يكتشفني بعد.
أشرب المطر السّاقط من أعبائي الثقيلة، تمنّيتُ لو احتفظتُ بالكأس الفارغ لأجمع القطرات داخلها، ظمآن أنا والمطر مالح، أرضي جافة، ألمسُ حبّات حقيقية، يقذف المطر قطراته داخلي، يتحكّم بزمني المجروح، وبحركتي، وبعقارب ساعتي، صرختُ في أعماقي، صرختُ كالمجنون:
– ما أجمل قدّاس المجابهة، ما أجمله! مع المطر فقط.
ما يحدث معي الآن، تواصل نقيّ وجميل، أرفع من كل الكائنات، إنه عمق الجبروت، عمق السعادة، عمق الحياة أن تنافس المطر بقوتك وحبك للحياة.
رقصتُ أمام الخط الأخير للطريق الطويل، أمام البيوت الساكتة، بيوت وكأنها قبور، السكون عدوى، ومن يلازم المقبرة يشتهيها.
احتفلتُ وحدي، سخرتُ من الفجر البائس، لم أسمع سوى نفسي الراقصة، كان صخبي جميلا، روحي عائدة من منبر الانتظار.
يغزو الفجر المكان، وها أنا هنا أحملُ راية الاكتشاف، تسللتُ إلى مخادع الآخرين والجميع نيام، ما أجمل رحلتي الليلية، بل أصبحت صباحية. وبدأ نهار جديد، وانكسار جديد، وعبء جديد، عرجتُ إلى حيث توقّفت الحياة، ذهبتُ إلى من سبقونا، إلى هناك، إلى بداية النهاية، إلى المقبرة، تركتُ إصبعي، والمحطة الغافية، والرّصيف المبلّل، وأعمدة الكهرباء الصامتة.
لم أهتم لوصول الحافلة… ودخلتُ…