لميس طوبجي – سدني
فارسٌ يحمل سيفاً ويقف على شريطٍ فيلمي، فارسٌ يزن أربعة كيلوغرامات تقريباً، ويبلغ طوله أربعةً وثلاثين سنتيمتراً، فارسٌ ليس حقيقيَّاً وإنما تمثالٌ مطليٌّ بالذهب. الفارسٌ جائزةٌ لمن أبدع في التصوير أو التمثيل أو التأليف أو الإخراج، يتم توزيع الجوائز في حفل أكاديمية فنون وعلوم السينما (أوسكار) كل عام في مسرح دولبي بمدينة لوس أنجلس الأميركية. يمشي المبدعون فوق السجاد الأحمر باتجاه القاعة الكبيرة بكامل زينتهم وأناقتهم، تكاد رائحة عطورهم تفوح من الشاشات، فيما تتسابق عدسات المصورين لالتقاط صورٍ لهم.
ومن بين أفضل الأفلام المرشحة للفوز لهذا العام حصد فيلم (الخوذات البيضاء) جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير، الفيلم يعكس واقع أصحاب الخوذات البيضاء، ولاسيما في مدينة حلب السورية، أولئك المدنيين الذين كانت أحلامهم بسيطة ويومياتهم عادية إلى أن جاءت الحرب وانتشلتهم من حياتهم، فراحوا ينتشلون الناس من تحت الأنقاض. يصور الفيلم طبيعة عمل المتطوعين في الدفاع المدني، كيفية إنقاذهم لأرواح الناس ويوضح تدريبهم وتعلمهم لطرائق الإنقاذ.
ثلاثة آلاف متطوِّع، أحدهم كان خيَّاطاً، والآخر كان معلماً، أو نجاراً، أو دهاناً …. مدنيون اختاروا أن يُواجهوا الحرب بالحب، أن يُواجهوا الحرب بالسلام، لم يرفعوا أمام الحرب بنادقهم ولا راياتهم البيضاء، بل وضعوا فوق رؤوسهم قبعات بيضاء واجهوا فيها نيران الحروب وراحوا يبحثون عن دقات قلب لا يزال ينبض بالحياة من تحت الحجارة.
تشقَّقت أكفُّهم من الصخر والحجر، تبللت أصابعهم بدماء الجرحى، تغطت وجوههم وأجسادهم بالغبار ولم تتلوث قلوبهم باليأس. فقدوا أحباء لهم أو فقدوا بيوتهم لكنهم لم يفقدوا الصبر والإيمان، وراحوا ينبشون التراب والصخر والحجر، ينبشون الركام والغبار، لا بحثاً عن جوائز مرمية تحت الأنقاض بل عن البشر، بحثاً عمن يصرخ، أو يبكي، أو يطلق صرخات استغاثة.
الحرب ليست فيلماً سينمائياً يصرخ المخرج في نهايته: «انتهى التصوير», ولأن الحرب لم تنته بعد فإن بطولتهم لا تزال مستمرة. أكثر من أربع سنوات ولا يزال أولئك الأبطال كلما سمعوا صوت الموت ركضوا نحوه لا مبتعدين عنه، لينقذوا الناس من البيوت التي تهدمت فوق رؤوس أصحابها، ويسعفوا المصابين إلى أقرب مستشفى. لم يخطر ببالهم أنهم سيصبحون يوماً ما أبطالاً، لم يكتشفوا مقدار قوتهم إلا حين أصبحت قوتهم هي سلاحهم الوحيد كما يُقال. الحرب تكشف الإنسان على حقيقته، تكشف ضعفه أو قوته، واستطاعت الحرب أن تكشف أن وجوههم حقيقية لا مزيفة، وأن وطنيتهم فعلية لا مجرد كلام، وأن بطولتهم واقع لا تمثيل.
حالهم كحال البطل ديسموند دوسّ ( (Desmond T. Doss الذي شارك في فيلم Hacksaw Ridge)) الذي يحكي عن الحرب العالمية الثانية، والذي رفض أيضاً حمل بندقية، وظل تحت وابل الرصاص والقذائف يركض لينجد إنساناً جريحاً ويعيد له الأمل بالحياة. أولئك الذين يستحقون جوائز على إنسانيتهم، أولئك جائزة الوطن والذين يستحقون أن نرفع لهم قبعاتنا، أولئك هم الأبطال الحقيقيون لا ممثلو البطولة.
لم يتمكن فريق عمل الفيلم من حضور حفل الأوسكار، فتحدث المخرج بلسانهم داعياً إلى إنهاء الحروب في سورية وفي العالم، لم يحضر الأبطال الحفل ولم يلبسوا قمصاناً بياقات بيضاء، ولم يرشوا على أنفسهم عطراً فاخراً،و لم يمشوا فوق سجاد أحمر. لم يكن حلمهم أن يصبحوا مشهورين أو أن يكافئهم أحد، و ملمس تمثال مطلي بالذهب بين أصابعهم لن يسعدهم أكثر من أن يحتضنوا طفلاً حيَّاً يخرجونه من تحت الأنقاض.
يحلم أصحاب الخوذات البيضاء اليوم بأن يصل صوتهم، يحلمون مثل باقي الناس بأن تنتهي الحرب وتتلاشى مثل فقاعة صابون، كي يعملوا على إعادة بناء الوطن. وفي انتظار النهاية لا يزال هؤلاء الأبطال بقبعاتهم البيضاء ينتشلون الفرح، ينتشلون ضحكات الأطفال، ينتشلون الأمل من تحت أنقاض الوطن. في انتظار النهاية لا يزال جنود مجهولون وأبطال من دون قبعات يعملون بصمت، عمالٌ وموظفون ومعلمون وأطباء وطلاب … تشبثوا بالوطن رغم جراحه وراحوا يزرعون أشجاراً من محبة. فاز فيلم (الخوذات البيضاء) بالجائزة؛ فهل يصل صوته ويفوز حقاً بانتشال ما تبقى من ضحايا!؟ أو بانتشال سورية من تحت أنقاض الحرب!؟
داخل قاعة الحفل تساقطت أكياس بيضاء ممتلئة بقطع الحلويات من السقف. طعم الحلويات يترك داخل أفواهنا الكثير من اللذة، يترك داخلنا طعماً حلواً شبيهاً بلذة مساعدة الآخرين، سواء كنا نلتقي بهم يومياً أو كان لقاؤنا بهم مرة واحدة في العمر لا أكثر. جميل أن نوزع حلويات السعادة والمساعدة على الآخرين ونساهم في تطريز الأرض بالحب سواء كنا نضع قبعة بيضاء أو قبعة إخفاء.