لميس طوبجي – سدني

إلى أين أنت ذاهب؟ إلى الحديقة, إلى العمل, إلى المنزل. إلى أين أنت ذاهب؟ سؤال نعلم تماماً إجابته حين نُسأَلُ عنه, ولكنَّك إذا ما سألت هارباً من الوجع إلى أين أنت ذاهب سيقول لك: لا أعلم. إنَّ المجهول هو وجهته الوحيدة. ربما يلجأ في البداية إلى البلدان المجاورة ثم إلى البحر. يركب أمواج المجهول باتجاه شط الأمان الذي قد لا يكون آمناً.
كنت أقف منذ عدة أيَّام أمام البحر ليلاً .. كان القمر يلوِّن سطح الماء بلون الذهب .. كنت كمن يرى البحر والقمر لأول مرة.. لم أستطع أن أبعد نظري عنهما. كنت أرى البحر جميلاً وساحراً. تذكرت المهاجرين عن أوطانهم, وتساءلت إن كان  المهاجر يرى البحر جميلاً, أم أنني أعتبر البحر جذاباً لأنني أراه من بعيد .. من نقطة الأمان .. من نقطة اليابسة التي أضع قدمي عليها!
ربما ينكر المتابعون لوسائل الإعلام ما يجري في سورية وسواها من ويلات.. ربما يظن البعض أنها صور لا تمت للواقع بصلة وربما يعتقد آخرون أنَّ ما يتم عرضه على الشاشات مسلسل تلفزيوني داخل نشرة أخبار, لكنَّ ما لا يمكن إنكاره هو الأعداد الكبيرة من الناس التي هاجرت وتهاجر ..التي هربت وتهرب ..أولئك الذين ماتوا في رحلة البحث عن وطن بديل. ما الذي يدفع بالرجال للزجِّ بنسائهم وأطفالهم وأنفسهم في البحر إن لم يكونوا قد وجدوا في البرِّ موتاً أكثر من موج البحر؟! «علينا أن نحرر أنفسنا من الأمل بأن البحر يوماً ما سيهدأ .. علينا أن نتعلم الإبحار وسط الرياح العاتية»  هل طبق المهاجرون كلام أرسطو بحذافيره, وأبحروا غير مكترثين بالرياح العاتية دون أن ينتظروا نسمات السلام حتى تهبَّ على أوطانهم؟!
لم يكلفهم الأمر شيئاً سوى قارب مطاطي يقطعون فيه أمواج الخوف بعد أن دفعوا كل ما يملكون لرحلة العمر هذه.
داخل قوارب مطاطية تحمل ثلاثة أضعاف قدرة تحمُّلِها حطَّت رحالهم. داخل تلك القوارب كانوا يملكون جميع أسباب الموت؛ فقد ينقلب القارب من الثقل, قد تتسرب الماء إلى القارب فيغرق, قد تكون الأمواج عالية والرياح شديدة, ربما لا توجد معهم صفارات إنذار أو معدات ضوئية, ربما لا يتكلمون الإنكليزية, وربما لا توجد سترات نجاة  تكفي المهاجرين الذين لا يعرف معظمهم السباحة وإن وجدت السترات فلن تصمد طويلاً, ولن تكون أطواقاً سحرية توصلهم إلى الجنة الموعودة.
لقد كان المهاجرون أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الموت أو الوصول ولا مجال للعودة.
غرق كثيرون العام الماضي في البحر الأبيض المتوسط , غرقوا وهم يطلقون نداءات استغاثة لا أحد يصغي إليها ..  نداءات أشْبَهَ ب «إني أغرق أغرق أغرق». وبدل أن يهتفوا ويصرخوا سعداء بولادة جديدة .. أطلقوا صرخات ما قبل الموت. ابتلع البحر كثيراً من المهاجرين ولفظ الباقي على رمال شواطئه. وحده المحظوظ من كان يعرف السباحة, من استطاع أن يتخطى آلام الجسد, أن يسبح في المجهول رغم أمواج الحزن كي يصل إلى خط النهاية. وإن مات فإنه سيموت عزيزاً بعد أن نال شرف محاولة الوصول.
أما المسكين فهو من لم يكن يعرف السباحة, من ألقى به البحر على الشاطئ لؤلؤة من غير صَدَفَة وحدها الصُدفة جعلت جسده يعوم حتى تلقَّاه الشاطئ. إنها الحرب التي جعلت البحر يتقيأ جثث الأطفال كأسماك ميتة .. جعلته يأتينا بطفل ميت  هو إيلان . لفظه البحر ميتاً من دون صندوق. لم تكن حياة إيلان أكثر من رحلة قصيرة مابين صرختين؛ صراخ ما بعد الولادة وما قبل الموت. إلى أي درجة كانت الحياة بخيلة معه و لم تتكرَّم عليه بصندوق يخفي داخله خيبته وموته؟!
كنت في ذلك اليوم أراقب موج البحر وانعكاس القمر. لمحت يومها طفلاً يسبح وآخر يركض وأطفالاً يلعبون ويضحكون. ورأيت كيف ترتفع السعادة فوق مستوى سطح البحر في حضرة اللون الأزرق؛ لكنني أحسست بتأنيب الضمير, أحسست بالذنب لشعوري بالسعادة, ربما كان يجب أن أشعر أمام البحر بالرهبة,  ربما كان عليَّ أن أقف دقيقة صمت أو أقرأ الفاتحة على أرواح الذين غدا البحر مقبرة لهم.
لا أعلم إن أحسَّ اللاجئون بالاطمئنان قبل أن يركبوا غياهب البحر, لكنَّ ما أعرفه تماماً أنَّ البحر كان كريماً معهم حين منحهم طريق عبور إلى الأمان. لست أعلم ماهية مشاعر اللاجئ تجاه البحر, لكنَّني متأكدة أنني لازلت أحب البحر, متأكدة أن الأزرقَ لا يزال لوني المفضل, وأعلم أني يوم لمحت البحر من بعيد تناسيت ما حولي, تناسيت من معي, تناسيت أعوام عمري ورحت أركض صوب البحر والقمر .. متقفيةً آثار طفلٍ في داخلي.