أنطوني كليري

نمر من وقتٍ إلى آخر بلحظات نصفها باللحظات التي تغيّر الحياة وقد تكون تلك اللحظات مجرّد تجارب مرتبطة عموماً بأماكن نقوم بزيارتها أو بأناس  يضعهم القدر في طريقنا كما قد تكون تلك التجارب بمثابة لحظات تدفعنا من خلالها الى مراجعة الظرف الذي نواجهه كما تحفزنا للتفكير في الحياة وفي معناها الحقيقي.
لقد تعرّضت مؤخراً لتجربة ما ..
حادثة أوتلاندز التي أودت بحياة أربعة أطفال هذا العام كانت على لسان معظم الشعب الاسترالي:  ثلاثة إخوة  وإبنة عمتهم التي كانت ترافقهم أثناء وقوع الحادث.  لقد قامت شبكات الأخبار الرئيسية ومواقع التواصل الإجتماعي بالتعبير عن الكثير من مشاعر هذه الصدمة  والحزن الذي  نتج عن تلك الحادثة المؤسفة ولكنها لم تكشف الغطاء عن الكثير من شعور الغضب والكراهية الذي رافق هذا الحدث المؤلم .
لقد بدا واضحاً للعموم ان ّالغضب الذي احتلّ قلوب شريحةً كبيرة من المجتمع نتيجة هذا الحادث المروع قد غاب وسط أصداء هذه الحادثة المفجعة ليحل ّمحله التفكّير العميق والرغبة الصادقة في إعادة تقييم لمفهوم نعمة الحياة  التي اعطت لنا . كيف حصل ذلك ؟
لمْ يكن الأمر ممكناً لولا حكمة والد ووالدتي الأطفال الذين واجهوا سيفاً قاسياً كان قد قضى على حياتهم قبل أوانها، (داني وليلى عبدالله وبريجيت صقر).  فكانت ردود فعل والد ووالدتيّ الضحايا امراً ملفتاً
ساهمت بشكلٍ كبير بملامسة ادق مشاعر الناس على نطاق واسع كما خلقت جواً عامراً من الحزن لم ْ يطل ْ فقط العائلات التي لها علاقة مباشرة بذوي الضحايا والأصدقاء المقربين فحسب، بل تخطى ذلك الى درجة أنه خلق حالة خاصة مشتركة بين  الغرباء فوّحدهم حزنهم  على فقدان أنطوني ومن أنجلينا و سيينا صقر.
لم يُلق داني وليلى وبريجيت في أكثر الأحيان صعوبةً في التركيز على طبيعة هذه الحادثة المحزنة بل بالعكس ادهشوا الجميع بتحويل إهتمامهم نحو الإيمان الكامل  بإن الرب كان حاضراً معهم، حتى في خضِم معاناتهم الرهيبة. لم تحمل كلماتهم في طياتها أي هجوم على السائق بل بدت وكأنها تكريم لحياة أطفالهم ممّا أعطى لكلماتهم ولموقفهم الجليّ  المعنى  الحقيقي لأخلاقية مثلى في الايمان لكثيرين من الذين عايشوا  هذا المصاب الجليل.
لقد أُتيحت لي مؤخراً الفرصة للإلتقاء بهؤلاء الأشخاص المميزين و قضاء بعض الوقت معهم وكان ذلك فعلاً من حسن حظي ان اخوض تلك التجربة وليس ذلك بسبب الإيمان العميق والملهم الذي يتسم به داني و ليلى و بريجيت فحسب، بل لكونهم أمثلة حيّة لمعاني  الإنسانية في أعمق صورها وذلكً لإنهم يجسدون بحث الانسان المؤمن الصادق عن الأسئلة العظيمة حول الحياة والموت وطبيعة المعاناة و الإيمان بالرب و بحثنا الشخصي عن المعنى الحقيقي للحياة.
برغم مهنتي كمعلم لمدة ثلاثين سنة، شعرت أمامهم و كأنني أنا التلميذ وهم الأساتذة الذين تعلمت منهم  الكثير من الدروس.
في الوقت الذي يرغب فيه الكثيرون في مجتمعنا بحصر الرب في حيز خاص، نرى داني و ليلى وبريجيت  يضعونه  في ساحة عامة أمام مرأى من الجميع عبر رسالتهم غير المبهمة. لا تيأس من الرب. إن الرب معنا في واقعنا المعيوش و قد تكون الحياة بين الحين والآخر مليئة بالمصاعب ولكن الرب دائماً حاضر ولا يجب أن يضعف أيماننا به. هذه رسالة قيّمة جداً وثمينة نستقبلها برحابة صدر بالرغم من إختلافها مع الثقافة السائدة.
إن هذه التجربة على حد ّ سواء تُختصر بدعوتهم للمغفرة في الوقت الذي ينشغل  فيه الكثيرون  باطلاق الاحكام الظالمة على اعمال بسيطة كان من الممكن تجاوزها والصفح  عنها . لذلك نرى في هذا المثال الحي امام أعيننا انهم بالرغم من آلامهم قد نجحوا في إيصال  رسالة الصفح والغفران. إن هذا المثال هو بمثابة التحدي الذي يجعلنا جميعان نتساءل عن قسوة قلوبنا.
إن طبيعة هذه الحادثة المؤسفة وضعت داني وليلى وبريجيت تحت الأضواء  ممّا دفع الناس من جميع مفارق الحياة الى الاستماع الى  قصتهم دون ان يكون لهم الخيار في قبول او رفض او تجنب  هذا الظرف الخاص الذي وجدوا انفسهم امامه. إن القيام بسرد قصة أحداث الواحد من فبراير والأشهر الماضية مراراً و تكراراً أمر مؤلم دون ادنى شك ولكنه في الوقت نفسه ساهم بطريقة غير مباشرة بمعالجة الألم الذي يعانون منه دون ان يضع له حدّاً نهائياً .

لم يتوان داني و ليلى و بريجت عن التحدث بفخر عن حياة أطفالهم الآخرين:   ليانا وأليكس ومايكل عبدالله ومايكل صقر وذلك حتى أثناء سرد القصة المحزنة لفقدان أطفالهم وفي خضم شعورهم بالألم العميق كان من المدهش واللافت  حقاً أن ّنراهما يتشبّثان  بايمانهما العميق بإن الحياة لم تنتهِ عند هذا الحدّ  بالرغم من انها تغيرت الى حدّ بعيد ليس من الممكن بعد اليوم إصلاحه ومع ذلك ستستمر العائلتان بالتمتع بما اُعطي لهما من أطفال آخرين.
كان لقاء داني وليلى و بريجيت بالنسبة لي بمثابة الولادة الروحيةالجديدة، تجربة فريدة حقيقية (غيّرت وبدّلت  مقاييس ومفاهيم كثيرة  للحياة) ساهمت  بالفعل بتذكيري بأن الصليب لا يمكن فصله عن التلمذة المسيحية الحقّة وأنّ حياة هؤلاء الثلاثة  كانت نموذجاً حيّاً في الإخلاص والأمل والحب كما أثارت سؤالاً واضحاً لكلٍ  منا:
– كيف يمكنني أن أعيش الحياة التي يريدها الرّب لي ؟