أيها الإخوة والأخوات الأحباء في المسيح،
نجتمع الليلة كما جرت العادة في عيد أبينا القدّيس مارون، في هذه الكاتدرائية التاريخية التي تحمل اسمه، وتحمل آماله في استمرار الإيمان في كل الأرض ولجميع الناس ذوي النوايا الحسنة.
‏و يحزننا في هذا المساء أن المنطقة نفسها التي عاش وبشّر فيها القديس مارون وتلاميذه، تتألم اليوم من وطأة الهزة الأرضية العنيفة التي ضربتها. ونصلي خاصةً من أجل شعب تركيا وسوريا حيث تجاوزت الخسائر في الأرواح 12,000 شخصاً، بالإضافة إلى عددٍ لا يحصى من الجرحى والنازحين والمشردين. نسأل الله بشفاعة القديس مارون أن يواسي المحزونين ويقوّي فِرَق الإغاثة والطوارئ للقيام بعملها، ويضيء نوره ورجاءه وسط الحزن واليأس.
ويطيب لي أن أطلب منكم للحظة واحدة أن تعودوا بالتفكير إلى عام 1973، وإلى المكان المقدس نفسه الذي نجتمع فيه هذا المساء، وأعرف أن بعضًا منكم موجود هنا الليلة، كان هنا أيضاً في ذلك اليوم التاريخي، حيث اجتمع الموارنة للترحيب بالمثلث الرحمة المطران عبده خليفة، أول أسقف لأبرشيتنا المنشأة حديثًا آنذاك.
لقد شكلّ ذلك الحدث التاريخي، فصلاً جديدًا في حياة الموارنة في استراليا، وأبرز أهمية رسالتنا ككنيسة مشرقيّة في هذه الأرض المباركة، كما كشف عن أهمّية التقليد الأنطاكي السرياني الماروني، الذي يُبرِز هويَّة كنيستنا المارونية ضمن الكنيسة الأسترالية الكاثوليكية.
وبالتأكيد – في حين أن البداية لم تكن أبداً سهلة وسلسة، ولكن يمكننا أن ننظر إلى الوراء، فيستوقفنا ما تمّ إنجازه في الخمسين عامًا الماضية. أود أوّلاً أن أشكر الرب على نعمة أسلافي الأساقفة ومساهمتهم الكبيرة في حياة الموارنة الاوستراليين: المطران الأول المثلث الرحمة عبده خليفة، والمطران الثاني المثلث الرحمة يوسف حتي، والمطران عاد أبي كرم الذي أكد لنا أن صلواته معنا في هذا العيد ومناسبة إطلاق اليوبيل الذهبي.
في إنجيل اليوم، نسمع يسوع يتكلم عن حبة الحنطة التي تقع على الأرض، فإذا ماتت، تخرج منها حياة جديدة. وبالمقابل، إذا بقيت كما هي ولم تمت، ولم تنقسم ليخرج منها البرعم الأخضر، فذلك هو الطريق المسدود إلى الموت، ولا شيء يأتي منه.
ثم يطبّق الرب يسوع المثل على أناس مثلنا: هذا يعني أننا إذا أمَتنا رغباتِنا وشهواتِنا وأنانيتَنا وكبرياءَنا، فيمكننا إذن أن نتبع يسوع في التواضع والطاعة، وبذلك ننال عطية الحياة الأبدية .
هذه هي في الواقع كيفية مشاركتنا في مسيرة القداسة والانفتاح. هذا هو معنى المثل الانجيلي: إنّ حبة القمح بموتها تنفتح على حياة جديدة في الله، وبتحقيق ذلك نجد القداسة أيضًا.
نتذكر كل ذلك اليوم الذي نحتفل فيه بهذا العيد المبارك، ونحن نطلق سنة اليوبيل الذهبي، احتفالًا بمرور 50 عامًا على تأسيس الأبرشية المارونية في أستراليا. إن تاريخ الموارنة في هذا البلد أقدم بكثير، وهو يعود إلى أكثر من 150 عامًا. لكن الأمر استغرق مئة عام حتى تُزرع البذور المباركة وتؤتي ثمارها. وإذا أخذنا في الحسبان تاريخ القديس مارون وتلاميذِه، فإننا نتحدث عن أكثر من ألف وستمئة سنة. هذه البذور المزروعة سمحت لموارنة أستراليا بإنجاز كل الأشياء الرائعة التي قاموا بها.
تميّزت حياة مار مارون وتلاميذِه، كما حياة رعاة الكنيسة المارونية، والبطاركة، والإكليروس، والرهبان والراهبات، والعلمانيين، والأغنياء والفقراء، الكبار والصغار، بكونها مسيرة قداسة وانفتاح. ومثلما أعدّ أسلافنا الحصاد الذي نجمعه الآن، نسأل اليوم ما هو الحصاد الذي نعدُّه لمن سيأتي بعدنا؟
فالمحور الأول والأساسي من احتفالاتنا باليوبيل، يقوم على ترحيبنا ليس فقط بذخائر القديس مارون، بل أيضًا بذخائر القديسِين شربل ورفقا ونعمة الله. ويأتي القديسون الموارنة الأربعة إلى أستراليا لينضموا إلى قديسة أستراليا المحبوبة والمكرَّمة من الموارنة، وهي القديسة ماري ماكيلوب. وتعتبر ذخائرُهم تذكيرًا ملموسًا بحقيقة معينة وهي وعلى الرغم من انتمائهم الان الى السماء إلى عالم أعلى من عالمنا هذا، لكنّهم كانوا بالفعل موجودين على أرضنا، كانوا رجالًا ونساء عاديين من لحم ودم، مثلنا تمامًا. إن حقيقة اكرامنا لذخائرهم اليوم تذكّرنا بقداستهم، وتجعلنا نشعر بأن القداسة ممكنة والكل مدعو للوصول إليها بقلب صادق ومتواضع، ولكن مشتعل برغبة شديدة لخدمة الله وعبادته.
نحن لا نكرّم ذخائرهم لنعيش في الماضي، بل لتعزيز الحاضر وبناء المستقبل بحكمة الماضي. نحن نتطلع إلى المستقبل بعيون وقلوب مرفوعة لأن كنيستنا المارونية الحبيبة تشهد نموًا مستمرًا في أستراليا.
في عام 1973 ومع وصول أسقفنا الأول، كان لدينا أربعة كهنة و3 راهبات. أما اليوم في عام 2023، لدينا 58 كاهنًا و 20 راهبة يخدمون شعب الله بكل تجرد وتفاني.
في عام 1973، كان لدينا أربعة رعايا، اثنتان منهما بدون كنيسة رعية، ومدرسة واحدة مهمّة هي مدرسة مار مارون، ولكن لم يكن لدينا أي مركز لخدمة المسنين أحبائنا. وفي عام 2023، أصبح لدينا 21 كنيسة وكنيسة صغيرة، وثماني مدارس وخمسة مراكز لرعاية المسنين؛ وما زالت تلك الإنجازات تزدهر وتزداد يوما بعد يوم.
اسمحوا لي اليوم أن أوجه كلمة شكر لكم أنتم أبناء وبنات القديس مارون، من أجل كل ما فعلتموه لضمان مواصلة مسيرتنا إلى الأمام. هنا أعني الجميع، من كلّ الموظفين والمتطوعين، أولئك الذين تبرعوا بطريقة أو بأخرى، أولئك الذين يخبزون ويعدون الاطعمة والحلويات، أولئك الذين يساعدون في الحفاظ على رعايانا، أولئك الذين تشتعل قلوبهم بالحبّ لكنيستنا رغم التحديات.
كما أنني ممتن جدًا للكهنة والرهبان والراهبات، من الأوائل الذين وطأت أقدامهم هذه الأرض، إلى الذين وصلوا حديثاً، لعملهم وتفانيهم في الخدمة الرعوية والرسوليّة .
وعلى وجه الخصوص، أتقدم الليلة بامتناني العميق لرئيس كهنة الكاتدرائية الأب جيفري عبد الله والاكليروس المعاون، والى لجان و كل أبناء رعيّة مار مارون الأحباء، كما إلى جوقة الأبرشية. وأشكر أيضاً الرابطة المارونية في أستراليا لدعمها لهذه المناسبة، وشكري الخاص إلى المؤسسات الداعمة لاحتفالات اليوبيل التي تتيح لنا الفرصة لنلتقي مع بعضنا البعض كجماعة واحدة.
خالص شكري أيضًا لعائلة الكلمة الإلهية، التي حمل بعض أعضائها ذخائر القديسين في هذا المساء، وإلى النحات الموهوب السيد توفيق مراد وزوجته لمَا، الذي نحت هذا المجسم الخشبي الرائع الذي يحمل ذخائر القديسين والذي أعده خصيصاً لمناسبة اليوبيل الذهبي.
أيها الأحباء، سنة اليوبيل هي أولاً وقبل كل شيئ فرصة للعودة الى الذات والتجدد الروحي.
لهذا السبب أيضًا، وضعنا برنامج لزيارة الذخائر إلى جميع رعايانا، حتى تُتاحَ للجميع الفرصة لإكرامهم والصلاة من أجل نيل شفاعتهم عند الرب. وهكذا تتجلى حقيقة اساسيّة، أن القداسة والفضيلة الفائقة يمكن أن تعاش ولها مكان في ما بيننا، وهما موجودتان بالفعل.
يجب ألا نسمح أبداً لأنفسنا بأن ننسى أن رحلة القداسة والانفتاح تبدأ هنا، والآن، ومع بعضنا البعض ولكن ذلك لا ينتهي هنا والآن. فهو من أجل أولادنا، وشبيبتنا وعائلاتنا، وإخوتنا في جميع أنحاء العالم.
وهكذا تأخذ الكنيسة المارونيّة بعداً عالميًّا، نترجمه بزيارة غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، شواطئنا للمرة الثانية، ويحتفل بقداس اليوبيل التذكاري في 24 أيلول سبتمبر.
واليوم أريد أن أصلي معكم ومع كل الموارنة الاستراليين من أجل متابعة حمل مسؤوليتنا المزدوجة والتي منحنا اياها الله في هذه الارض المباركة: مسؤولية وامتياز الحفاظ على تراثنا السرياني الماروني الانطاكي وإرث القداسة والقديسين الغني والرائع، من خلال عيشه وتنميته. والمسؤوليّة الثانية تتجلى بكوننا مؤتمنون على نقل هذه الروحانية والتراث إلى الاجيال المارونية الجديدة، هنا وفي كل مكان. وتبقى كلمات الرب في قلب رسالتنا:
«لذلك اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يطيعوا كل ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (متى 28: 19-20).
أتمنى لكم جميعاً عيداً مباركاً!