رغيد النحّاس_ سدني

نظر في شاشة هاتفه ليجد أنّ الشحنة عشرون بالمئة. اطمأن قلبه بحذر، وهو الحريص دائمًا على شحن هاتفه كلّما عاد التيّار الكهربائي في بلد تنقطع فيه الكهرباء معظم اليوم. الهاتف يلازمه مثلما يلازم كثيرين ممّن هم مثله في السنوات قبل العشرين بقليل من العمر.
في هذا البلد الذي أمضى أكثر من عشر سنوات من الحرب الوقحة، وعانى من الحصار السياسيّ والاقتصاديّ، ومن الاستغلال الداخليّ والخارجيّ، لم يبق فيه لمعظم المواطنين أيّ سبب من أسباب العيش الكريم، فما بالك بالرفاهيّات؟ لكنّ الهاتف المحمول جاء تعويضًا كبيرًا من حيث كونه خدمة أساس، وتسلية بما فيه من تطبيقات التواصل الاجتماعي. بواسطته يتواصل مع الأصدقاء والمعارف، ويأمل دائمًا بضرب علاقة مع فتاة من الفتيات. نعم، ما أن يشحن الهاتف، إلّا ويتفرّغ من شحنته بسرعة البرق. هناك نهم شديد للحياة، ولكلّ ما انحرم منه هؤلاء الذين في ربيع العمر.

لكنّه لم يكن يتوقّع أبدًا أن تكون حاجته لهذا الرفيق كما هي في هذه اللحظات. أخوه على بعد أمتار قليلة منه، لكن سبيله الوحيد في التحدّث إليه هو هذا الهاتف. كانا معًا في غرفتهما، لكنّ أخاه خرج لقضاء حاجة، وفي تلك اللحظة قامت القيامة. جنّ جنون الجدران وهي تتراقص يمنة ويسرى، وزمجرت الحجارة الإسمنتيّة وهي تتفكّك وتتكسر على بعضها وعلى كلّ ما يقع تحتها. وشكّلت بعض الكتل المتماسكة حواجز ومساند ترتكز عليها كتل أخرى فأعيد تشكيل البناء عشوائيًّا: صارت الشقّة عدّة حجيرات منفصلة بحواجز من الأنقاض الثقيلة.

ذهل من نفسه أنّه في وعيه «حيّ يرزق» (ابتسم حين تذكّر أنّه لا رزق ولا يحزنون في هذا الزمن المجنون). نظر إلى هاتفه بشحنته العشرينيّة، وهو الآن محبوس في زنزانة صغيرة توحي بالقبر. لا يستطيع الوقوف تمامًا من ضيق المكان. يعلم أنّ ثيابه تعفّرت، لكنه لم يصب بجروح. تترامى إليه أصوات ضعيفة، ربّما من عائلته أو الجيران. ينادي عسى أن يستجيب أحد، ولكن لا! يضرب رقم أخيه على الهاتف فيسمع الرنين بالقرب منه قادمًا من تحت كومة حجريّة. ترك أخوه الهاتف في الغرفة قبل خروجه. ينادي اسم أخيه بأعلى صوته. لا من مجيب.

بدأت أخبار الزلزال المدمّر تتوارد على هاتفه، وقبل أن يبدأ أيّ مخابرات مع الأصدقاء، من حرصه على الشحنة، يقرّر تصوير نفسه في تسجيل حول مأزقه، ينشره على فيسبوك عسى أن يفيد في عمليّات الإنقاذ. يصوّر نفسه وهو معفّر بالغبار، يتكلّم منفعلّا مرتجفًا بلهجة شمال سوريا. يلفظ الشهادتين، ويقرّ أنّه لا يعلم إن كان سيخرج من هذه الورطة أم لا. يلفت نظر المشاهدين إلى الأصوات التي من حوله. يؤكّد أنّه لا يمكن لأحد أن يستوعب هذا الحدث ما لم يعشه. لا يستطيع وصف شعوره. عند هذه الكلمات نلاحظ ثمّة دموع وشهقات عجولة بدأت تصدر عنه، لينهي التسجيل بعدها.

ينظر من جديد إلى هاتفه. الشحنة الآن خمسة بالمئة. يسائل نفسه: «هل ستنتهي الشحنة البسيطة الباقية، ومع ذلك سأخرج إلى الحياة من جديد؟ أم ياترى ستطير شحنة حياتي الطويلة في لمح البصر، قبل أن تتبدّد شحنة الهاتف؟»