تعتبر مرحلة الصوم وما يرافقها من طقوس وصلوات، خاصة زياح «درب الصليب» الذي يقام مساء كل جمعة خلال الصوم ويومياً خلال اسبوع الآلام، من اهم الطقوس الكنسية، خاصة لدى الكنائس الشرقية.
فزياح درب الصليب الذي يعيد رسم مراحل الآلام هو مشحون بالعاطفة ويدفع المؤمنين الى تذكر آلام السيد المسيح ومشاركته آلامه على امل القيامة.
فالصلوات التي تتلى والتراتيل ومضمون كلماتها  ووصف هذه المراحل تحمل الكثير من الواقعية والعاطفة والألم دون فقدان الأمل والرجاء مع قيامة السيد المسيح.
نشارك في درب الصليب، بعد ان اصبح تقليداً كنسياً، لكن قليلون يعلمون من بدأ هذا التقليد، كيف نشأ ليصبح اليوم من اهم الطقوس الكنسية.
وسوف اسلّط الاضواء اليوم على هذه الاسئلة لعلها  تزيد من معرفتنا وايماننا وندرك بالتالي مدى ارتباطها بالتراث الديني الحضاري في الكنائس الشرق اوسطية، وفي مقدمتها الكنيسة السريانية المارونية والانطاكية عامة.
< الخلفيات التاريخية
آن كاترين إيميريتش (1774 0 1824) كانت راهبة المانية متواضعة في اصولها وثقافتها، لكن العناية الالهية منحتها نعمة مميزة. فكانت تختطف في الروح وتنتقل في المكان والزمان برفقة ملاك يشرح لها جميع ما تعاينه خلال هذه الرحلة الروحية التي تفقد خلالها الوعي، لتعود اليها الروح فيما بعد وتنقل باللغة اللاتينية التي تجهلها تفاصيل معايناتها، بينما يقوم آخرون بتسجيل شهادتها.
يذكر يوحنا الرسول ان السيد المسيح صنع آيات كثيرة لو اردنا تسجيلها فإن كتب العالم لا تكفي…
الأخت إيميريتش نقلت بعض هذه التفاصيل منذ الخلق حتى صعود السيدة العذراء الى السماء. ومن جملة هذه الامور، انها تطرقت الى ظاهرة درب الصليب التي اورد تفاصيلها كما وردت في كتاب «حياة السيد المسيح الجزء الرابع» وفي كتاب «حياة السيدة العذراء» فجاء في الاول (صفحة 346) ما يلي:
كانت السيدة العذراء تزور مع رفيقاتها جميع الاماكن التي تقدست بنظرها مع وجود المسيح فيها في زمن ما بعد الصلب .. وكانت تسجد وتقبل هذه الاماكن وتذرف دموعاً حارقة متذكرة ما صنعه المسيح في هذه الاماكن، وهي تردّد اقوال مؤثرة. وكانت مرافقاتها النسوة يقلدون ما تصنع.
وتتابع الأخت إيميريتش قائلة:
«ان العذراء ذهبت الى الهيكل نهار السبت الاول (بعد الصلب) حسب التقليد اليهودي وذكرت امام رفيقاتها جميع الاماكن التي ارتبطت بها وبيسوع داخل الهيكل:  المكان الذي نشأت فيه في طفولتها وجرى تكريسها وتربيتها حتى تاريخ خطوبتها ليوسف. واشارت الى المكان الذي جرى تقديم الطفل يسوع للرب على يد الشيخ سمعان وتذكرت كلامه «ان رمحاً سيصيب قلبها» وعلمت ان هذه النبؤة قد تمت.
واشارت العذراء الى المكان الذي جلس فيه الصبي يسوع يجادل العلماء في الهيكل والى غيرها من الاماكن التي وعظ فيها المسيح او شفى المرض. وكانت تقبل هذه الاماكن. ولم تغادر الهيكل دون ان تذرف الدموع وتشعر بألم عميق لأن اهل هذا الهيكل المقدس يشهد على خطيئة شعبه، وتذكر نياح المسيح وألمه ونبوءته عن اورشليم وهيكلها.
وبعد خروجها من الهيكل سارت العذراء مريم في شوارع المدينة على خطى المسيح وهو في طريقه الى الصلب. وكانت تتوقف في مراحل ومواضع معينة وهي تذرف الدموع، تنحني وتقبل الارض وتردد اقوال مليئة بالحزن تصف ما جرى في كل محطة. وكانت رفيقاتها يرددن ما تقوم به.
وذكرت الراهبة إيميريتش ان العذراء مريم، برفقة مريم مرقص وفيرونيكا وحنه شوسه من بيت عنيا ونساء آخرات، كن يذهبن باستمرار الى القدس حيث تقوم العذراء في ساعات المساء الاولى بالسير على خطى الآلام، تصلي وتتأمل في الاوجاع التي تحمّلها السيد المسيح في طريقه الى الجلجلة.
غير ان العذراء مريم، نظراً لحركة الناس في الشوارع والمحلات التجارية المتنقلة، ارغمت على رسم هذه المراحل المقدسة في الهواء الطلق على مقربة من منزلها، وحافظت بالتالي على هذا التقليد المشحون بالآلام.
ويبدو ان العذراء مريم هي بالواقع الاولى التي بدأت هذا التقليد الذي اصبح يعرف بدرب الآلام في بيت عنيا.
ومع انتقال العذراء برفقة التلميذ الحبيب الذي اوصاه المسيح من على الصليب بأمه قائلاً: هذه هي امك.. سافرت العذراء مريم مع يوحنا الى منطقة افاسوس، حيث بنى لها منزلاً يبعد ساعة عن المدينة في منطقة ريفية.
وهناك اقامت العذراء مريم درب صليب في الهواء الطلق وحافظت على صلواتها اليومية مع مجموعة من المؤمنين والمؤمنات من المسيحيين الاوائل في المنطقة وبعض من رافقها  من القدس، او فرّ هرباً من الاضطهاد.
وكانت العذراء تقيم صلباناً في كل مرحلة وتكتب اقوالاً لها علاقة بكل مرحلة.
وتذكر الراهبة إيميريتش ان العذراء واظبت على القيام بدرب الصليب يومياً.  وبعد مرور 3 سنوات في افاسوس طلبت الى يوحنا وبعض التلاميذ انها ترغب بالعودة الى القدس. واول عمل قامت به  العذراء بعد عودتها هو القيام بدرب الصليب.
وتذكر الراهبة ان العذراء مريم كانت تنتقل من محطة الى اخرى وهي تكرر كلامات الحسرة: يا حبيبي يا حبيبي.. يا ابني، يا ابني… وكلمات عاطفية اخرى.
وعند وصولها الى اماكن سقوط المسيح تحت عبء   الصليب، كانت العذراء تتهاوى الى الارض وهي تنوح. وكان يغمى عليها في بعض المراحل المؤلمة.
كل هذا حدث مع مجموعة من السيدات والمؤمنين الذي حافظوا على هذا التقليد حتى بعد وفاة العذراء مريم.
واصبح درب الصليب تقليداً دينياً واجتماعياً مرتبطاً في اصوله بالايام الاولى من صلب المسيح وموته على الصليب.
وباعتقادي ان من يتأمل في الصلوات والتراتيل التي حافظت عليها الكنائس الشرقية يشعر بارتباطها التاريخي والعاطفي بمعاناة السيدة العذراء وما كانت تردده خلال قيامها بشعائر بدرب الصليب، ان كان في شوارع القدس او لاحقاً في افاسوس.
فالتراتيل التي تنشد تنقل المؤمن في الزمان والمكان  روحياً لمعايشة آلام العذراء مريم التي رافقت بصمت آلام ابنها وهو في طريقه الى الصلب، لكن حرقة هذه الآلام ثقبت قلبها واضرمت مشاعرها في وقت لاحق، عبرت عنها بالسير على خطى المسيح نحو الجلجلة. وما بدأته العذراء مريم وحافظ عليه المسيحيون الاوائل تحول الى عرف كنسي اجتماعي نقله الغربيون مع الحملات الصليبية وقبلهم مَن قاموا بزيارة الاراضي المقدسة.
فعمد رهبان بندكتيون في القرن الخامس عشر الى ادخال درب الصليب الى الطقوس الكنسية الاوروبية.
درب الصليب، او زياح درب الصليب ينقلنا لنعيش آلام السيد المسيح ووالدته العذراء مريم كما نقلت الراهبة إيميريتش بالروح لتعاين وجه الله وآلامه وقيامته.
هذا بعض ما ورد في ملاحظات الراهبة الالمانية، اردت ان اتشارك مع القراء في فهم اعمق لدرب الصليب.. درب الصلب والقيامة.
pierre@eltelegraph.com