
جئتُ هذا المساء، ألوذ إلى الرافدين وقبلتي تستميح الحبَّ لتتلوَ فريضة بابلية ، وريشتي تفيءُ الى ناصية بغدادية ، تنثر شهادات السطوع لشعراء من كركوك أسرجوا ضوء البدايات في قصائد عنقودية..
وألوذ معكم إلى الجواهري أشكو إليهِ حال القصيدة العراقية كيف غافلت رائحة الكتاتيب في بغدادَ والسماوةِ والحلة ، تستودعُها عبَق القريحة لتحلّقَ وتعانق نجوماً سافرة في السويد والدانمارك والنروج وبراغ، ولتحط رحال قوافيها في برلين ولندن ومدريد، ولترسم الوجعَ اللذيذ من تونس إلى القاهرة فبيروت وصولاً الى ملبورن وسدني واوكلاند مثقلة بثمارٍ عراقية نضجت في غير تربتها تحت شمسِ الباسيفيك..
جئت وأنا أحمل الضادَ زاداً وتحوطني قافلة جواهرية
أتأبّط مجلة شعر البيروتية وأسامرجماعة ابولو القاهرية وأرى ثرياتِ جماعة كركوك وصلاح فائق حروفاً في حواضر الإبداع
نحن صبحٌ يكحلُ مقلتيه حِزام الخُزامى، ورمشُ غيمة يتثاءب على غصن النخيل وموجة بيروتية تشنّف آذانها على اثير موال بغدادي
جئتُ هذا المساء احمل من مقاهي بيروت الثقافية أوراقاً وقّعها بلند الحيدري
وزيّنها معروف الرصافي والجواهري وبدر شاكر السيّاب ورواها محمد الصافي النجفي
ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وطيّب أنخابها مظفر النواب وسعدي يوسف وسركون بولس
مع هؤلاء خبزتْ بيروت رغيفَ قصيدتها وعجنت طحينها بماء الرافدين، ومعهم نقف اليوم أرزة تتجذّر في الثرى ونخلة تعانق الثريا.
يقف الجواهري هذا المساء، منديلُه ساريةٌ تلوّح للفرات، تلتقط نسمة عابرة تحبسها في قصيدة قبل ان يحوّلها المتسلًطون وقوداً لأحزانٍ عتيدة.
غداً يا أبا فرات ستتدلّى الثرياتُ لتمسحَ الحزنَ عن وجه بلادك، غداً ستحبل الشوارع بالعائدين وستقفلُ مقاهي العاطلين عن العمل، وسيهرب الساسة من حُجَر الخُطَب الفارغة، وسينبتُ عشبُ الفرحِ على شبابيك الانتظار، وسيُشبع خبزُ العودة أفواه السنابل،
غداً سنُراقصُ الشموسَ حتى آخر ومضة وسننظم الشعر حتى آخر قافية جواهريّة ، وسنصلّي حتى آخر ترتيلة وسنهزم الطغاة حتى يطلّ وجهُ العراقِ شمساً في المرايا.
هناك رفع جلجامش اعتاب العصور، وسقى المتنبي خابية الفصول، هناك زيّن الجاحظ سقف البلاغة وسنّ حمورابي قوانين قبل القوانين، وهناك سردت شهرزاد قصصاً قبل القصص وهناك أسدلت نازك الملائكة خصلة من شمس الحداثة فاهتدى بها عشاق المساءات والعابرون الى شغف القصيدة.
وهنا تقاطرتم هذا المساء لتنثروا طيب القصيدة على ضفاف الكوكب العراقي.
لا يا ابا فرات لن نموت كالغراب الذي غافله الخريف، لن ندع قنديل الطفولة يجف في التراب، ولن نترك الأفق يكفّنه الرماد.
أنت العصر الذي اولم للصفحات زهرَ قريحته، واطعم العصافير من رغيف ابياته، وحصد قمح الغلال على بيادر سومر وآشور، ولفّ بعباءته البابلية جرح الزمن الحاقد، عد وضمّد صفحاتٍ مزّقها الجنون، بلسم شفاهاً اسكرتها الدماء، أكحلْ عيوناً احرقها الدخان، أعدْ للأرض ريحانة تعانق الضفاف ودوِّنْ للأسحارِ قصيدة فراتيةً جديدة.
أبا فراتٍ أتاكَ الشعرُ يأتلقُ
سيلُ القوافي الى كفّيك ينطلقُ
في دُجلةَ الغيمُ ألقى غلائلَهُ
يوقظُ الفجرَِ بابَ الصبحِ يخترقُ
جواهريٌّ أنا والشعرُ مملكتي
هذي حروفي سقاها العطرُ والحبَقُ.
من للعراقِ اصطفى ديوانَ أحرفِهِ
من علّم الزهرَ كيفَ العطرُ يحترقُ
من سلّم النهرَ في بغداد أشرعةً
من علّم الحبَّ دينَ الشعرِ يعتنقُ
من غافل الأرضَ نحو الشمسِ منطلقاً
من عانقَ النخلَ سيفَ الريحِ يمتشقُ
من سطّر العمرَ للأشعارِ ملحمةً
أبا فراتٍ وأنتَ الحبرُ والورقُ