خالد الحلِّي
ملبورن
ونحن ننتهي من قراءة ديوان «رذاذ صيفي» للشاعر أنطوان القزي رئيس تحرير جريدة «التلغراف» الصادرة بالعربية في سدني، تستوقفنا عند صفحة الغلاف الأخيرة منه سطور دافقة ومكثفة، تجسد بإيجاز عميق ودال جوانب مهمة عن مسيرته الحياتية والإبداعية، يشير في مستهلها، إلى أنه « ليس للطير إلاّ أنْ يمتطي جميع الغيوم لينسج من أكمامها أراجيح المسافات، و ليس للإنسان إلاّ أنْ يشقّ صدر المسافة حاملاً كشّة أحلامه أنّى رمت به السبل».
وإذا كان يمكن لهذه الكلمات أن تشكل مدخلاً أوليّاً، يؤكد لنا أن الشعر هو ضرورة حياتية وإبداعية للشاعر، على ما تحمله هذه الضرورة من سمات وملامح وأبعاد، فإننا نجد بجلاء أن نصوص الشاعر القزي تتنفس العشق بكل أشكاله: عشق المحبة، عشق الوطن، عشق السلام، عشق الحقيقة، وبشكل يرينا أن العشق يتوالد عشقاً.
صدر هذا الديوان بـ 106 صفحات من القطع الوسط، ضمن منشورات مؤسسة الجذور الثقافية في ملبورن، وضم 27 نصاً. ومع تعدد المضامين التي تنبض بها روح هذه النصوص، نجده يقول في نص بعنوان «دمعة حمراء»:
دعيني ألملمُ الأوتارَ
أنا المأسورُ
في أمسِ الفراشات
أسبرُ الآهَ
أضمُّ الحياء.
فبيني وبين الجرحِ
عشقٌ غريبْ
وبيني وبين الندى
صيْفٌ عاقر.
وفي نص آخر، جاء بعنوان «بكاءٌ بلا تاريخ»، يقول:
بين الرّيحِ والرّيحْ
تغرّدُ ملامحي
أنا تدمرُ وطشقندْ
أنا بلقيسُ وسبأ
أنا قرطاجُ وقرطبة
وبين أسفاري وبيني
سندبادٌ بلا وطن
وبكاءٌ بلا تاريخ.
وبعودة إلى ما دونه الشاعر على الصفحة الأخيرة من غلاف الديوان، نجده يحدّثنا كيف أن السفر قد غافله ذات صباح، هو الذي أدمن سحر ذلك الأفق الذهبي مرآة تلف شاطئ بلدته الساحلية «الجيّة»، وقد سبقه أجداده على أشرعة الغفلة قبل تسعة عقود. و يرى أن «من حُسن الطالع أن القدر حطّ به في القارة الأبعد – أستراليا، مع عائلة من زوجةٍ وثلاثة أطفال تنازعتهم الهجرات الداخلية المتكررة في لبنان، إلى أن انتزعتهم الغربة إلى هذا المنأى.
ومع استرساله في الحديث يؤكد انه سيكون صادقاً عندما يقول أنّ وجنتيه لامستا مخدة الأمان لأول مرّة، وأنّ جفنيه أطبقا على وعود الصباحات الآتية، وأنّ أطفاله رسموا ابتسامات طالما حجبها الحزن في بلاده.
و يضيف قائلاً: « نعم، أستراليا زرعت في صدري كبرياء الإنسانية، ومنحتني جواز عبور إلى ذاتي الحقيقية، أنا الذي أثريت مدارس بلادي متواضعاً بثلاثة عشر كتاباَ وأتبعتها بخمسة أخرى في المنفى الأسترالي، لتصبح ثمانية عشر مؤلفاً كانت ثروتي وزادي وذخيرتي الباقية.
وفي نفس المسار يقول باعتزاز: «وجدتني في بلاد الكنغر منتصب القامة أمشي، في بلادٍ باتت الحضنَ الدافئَ وحبّة الدواء وبسمة الرجاء. هنا وجدتُ أبناء جلدتي وقد سَمَتْ بهم المراتب أهل علمٍ وعمل في كل الحقول :من أربعين حاكماً ووزيراً ونائباً إلى عشرت الأكاديميين والمخترعين والعمداء، إلى الكم الذي لا يحصى في الفنون على أنواعها، إلى الإعلام العربي الذي يجاري بل يبز الإعلام في أوطاننا الأم».
إن رحلة أنطوان القزي الحياتية والإبداعية، تحمل الكثير من رموز ودلالات المعاناة والعطاء، التي تعكس بمجمعها صوراً مشرقة من صور التميز والبهاء. وهي جديرة بأن تدرس بشمول عبر مراجعة لكل مؤلفاته التي بلغت السبعة عشر مؤلفاً كما ذكرنا سالفاً.