بقلم بيار سمعان

حذر بنك “جي بي مورغان” الاميركي من امكانية نشوب أزمة مالية عالمية جديدة عام 2020، على اثر حالة الركود الاقتصادي المتوقعة، نتيجة للنزاع بين الصين والولايات المتحدة اللتين تلعبان لعبة شد الحبل الجيو سياسية على الساحة العالمية.

وأثارت هذه التوقعات المخاوف من حدوث أزمة مالية عالمية مشابهة للتي حدثت عام 2008، والتي أدت الى حدوث ركود عالمي وانهيار في بعض اقتصاديات الدول، وزيادة الديون الخارجية لدى دول اخرى.

استراليا التي تقع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والتي لديها ارتباطات تاريخية قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا، تكافح اليوم لتحديد هويتها كدولة مستقلة، لديها كيانها الخاص واستقلاليتها واهدافها السياسية البعيدة في المنطقة.

لكن السؤال الذي يميل المسؤولون الاستراليون الى تجنب معالجته بشكل نقدي وموضعي، هو ما اذا كانت المنطقة المجاورة تعتبر استراليا جزءاً منها، ام انهم يعتبرونها جزءاً تابعاً للانغلوساكسونية، رغم موقعها الجغرافي وارتباطاتها التجارية مع دول الجوار؟

استراليا على مفرق الطرق.

ليس صعباً الاستنتاج ان المسؤولين الاستراليين وضعوا استراليا على مفرق طرق في تخطيطهم وفي السياسة التي يعتمدونها منذ نشأة «بلد الكانغرو»، اذ حاولوا الحفاظ على الروابط التاريخية مع أوروبا والولايات المتحدة، رغم شعورهم بضرورة ملائمة استراليا للتغييرات الجديدة مع قدرات دول الجوار الديمغرافية والاقتصادية والعسكرية…

فاستراليا تحاول اليوم تحقيق نوع من التوازن في كلا الاتجاهين، باعلانها ان الولايات المتحدة هي أولوية سياسية وعسكرية واستراتيجية، مع الاصرار على ان الصين هي المحرك الاساسي والاهم للرفاهية الاقتصادية، واكبر شريك تجاري لاستراليا .

ولا تتجاهل الحكومة الاسترالية المخاوف السياسية والاستراتيجية بشأن سلوكيات الصين الحالية، ونواياها الاستراتيجية، وما يمكن ان تفعله كقوة اقليمية متنامية تطمع للحصول على مكانة كقوة عظمى عالمية في المستقبل المنظور.

من الحرب الباردة الى نزاع القوى الكبرى

أثناء الحرب الباردة في منتصف الثمانينات، تحدثت استراليا للمرة الاولى وبجدية عن الدفاع. لكن العالم في تلك الحقبة ، كان مختلفاً للغاية. فكانت استراليا بعيدة عن نزاع القوة بين اميركا والاتحاد السوفياتي. وكانت المنطقة مستقرة نسبياً. وكانت لاستراليا آنذاك ميزة تكنولوجية من حيث اسلحتها واستراتيجية المسافات، وكان الاعتقاد السائد انه سيكون لاستراليا المتسع من الوقت، اذا كان هناك صراع في المنطقة.

لكن في عام 2019 لم تعد استراليا بعيدة عن نزاع الدول العظمى المتنافسة، حيث تتصارع الآن الصين والولايات المتحدة من جهة وروسيا والولايات المتحدة من جهة اخرى. وتتصاعد حدة التوترات حول بحر الصين الجنوبي، وبشأن النفوذ الصيني سياسياً وتجارياً، وديبلوماسياً، في جميع انحاء العالم، خاصة في منطقة المحيط الهادئ.

الصين الشريك التجاري لاستراليا.

تعتبر استراليا سادس اكبر شريك تجاري للصين، وهي خامس اكبر مستورد للمواد الواردة من الصين، وعاشر اكبر زبون للصادرات. 25% من واردات استراليا المصنعة تأتي من الصين.

13% من الصادرات الاسترالية الى الصين هي للفحم الحجري. وقد نمت صادرات استراليا من الفحم الى الصين بنسبة ألف (1000) في المئة العام الماضي، ليصبح اكبر سلعة تصدر الى الصين، بعد خام الحديد.

كما سجل العام الماضي نمواً قوياً من الصادرات الزراعية من الكانولا والاسماك واللحوم والحيوانات الحية والمنتجات الغذائية والاجبان.

وارتفعت قيمة صادرات استراليا من السلع والخدمات بنسبة تقارب 15% سنوياً لتبلغ 387 مليار دولار في عام 2017، في حين نمت الواردات بنسبة 7% لتصل الى 377 مليار دولار خلال نفس الفترة.

اما صادرات استراليا الى العالم فقد نمت بنسبة 0.6% في عام 2016، وزادت نسبة الصادرات والواردات مع العالم بنسبة 21% لتصل الى 763 مليار دولار في عام 2017. اي ان التبادل التجاري مع الصين يفوق التبادل التجاري مع العالم. فالنمو التجاري الاسترالي يدعم بالتالي الطلب القوي في اسواق الصين (الصين، هونغ كونغ وتايوان)، علماً ان التبادل التجاري وقطاع الخدمات مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند، تشهد ارتفاعاً بنسبة 21% وبلغت قيمته 217 مليار دولار.

الصين والطاقة الاسترالية:

تعتمد الصين بشكل متزايد على صادرات الطاقة والمعادن الاسترالية، رغم حدة النزاع مع الولايات المتحدة وحربها التجارية معها، مما يعرقل قدرة بكين على معاقبة كانبيرا، بسبب موقعها المتشدد بشأن قضايا الامن القومي والنزاع معها حول الهيمنة على دول المحيط الهادئ.

وتشير الارقام الصادرة يوم الاربعاء الماضي ان استراليا توفر 46% من واردات الصين من الغاز الطبيعي المسال حتى شهر تموز/ يوليو. اي انها تصدر اكثر من اية دولة اخرى الغاز الى الصين. كما ارتفع خلال العام الماضي الطلب الصيني على خام الحديد الاسترالي.

وتقدم استراليا رقماً قياسياً قدره 74% من خام الحديد المصدر الى الصين، وفقاً للارقام التجارية. كما تعتمد الصين على الفحم واليورانيوم الاسترالي لانتاج الطاقة الكهربائية وتوفيرها للمنازل والمصانع، حيث يسعى الحزب الشيوعي الحاكم للحفاظ على الازدهار في البلاد.

ويدرك المسؤولون الاستراليون ان الصين تعتمد في بعض النواحي على الصادرات الاسترالية اكثر مما تعتمد استراليا على ما تستورده من الصين.

استراليا، وهي ثالث اكبر مصدر لليورانيوم في العالم، بعد كازاخستان وكندا، ولديها اكبر مخزون اكثر من اية دولة اخرى. تعتبر الصين رابع اكبر مستوى لهذه المادة، مما يساعد الصين على بناء المزيد من محطات الطاقة النووية، اكثر من اي دولة اخرى في العالم.

حيال هذا الواقع التجاري والمصالح المشتركة بين استراليا والصين، يتسائل المرء حول مصلحة استراليا في توتير علاقاتها مع الصين، وهل هناك اسباباً غير معلنة تدفع استراليا الى التناغم اكثر مع سياسة الولايات المتحدة، حتى ولو أضرت علاقاتها الثنائية معها بمصالح البلاد الاقتصادية؟

اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة.

من الملاحظ على نطاق واسع ان رئيس الوزراء سكوت موريسون حقق تقدماً ونجاحاً خلال زيارته للولايات المتحدة، كما بدا خلال حفل الاستقبال الخاص والعشاء التكريمي على شرفه، والذي رعاه الرئيس الاميركي ترامب.

وكان ترامب قد امتدح استراليا ورئيس حكومتها، كما ابدى موريسون انسجاماً كبيراً مع الرئيس الاميركي.

وبدا ان الزعيمان لا يهتمان بآراء القادة الغربيين الذين ينظرون بقلق عميق الى سياسة ترامب الخارجية، ويعتبرونها غير منتظمة. وهذا ما يدفعهم الى توخي الحذر عند اصدار اية تعليقات حول سياسته الدولية.

على عكس هؤلاء امتدح موريسون الاسبوع الماضي الرئيس ترامب باعتباره “قائداً قوياً، يقول ما سيفعله ويلتزم بتحقيق ما يتعهد به… ويمكن بالتالي الاعتماد عليه لتنفيذ ما يعد به”.

بالواقع ان العلاقات الاسترالية- الاميركية هي أعمق من انسجام بين شخصين وتنظمها تفاهمات واتفاقيات  متعددة، منها الاتفاقيات العسكرية التي نادراً ما يتم الحديث عنها مفصلاً.

هناك نوعان من الاتفاقيات العسكرية، نوع يعلن عنه والآخر يعتبر “سري جداً”.

اتفاقية وضع القوة:

في عام 2015 تم التوقيع على اتفاقية «وضع القوة» The Force Posture Agreement، بين الولايات المتحدة واستراليا. تجعل هذه الاتفاقية من استراليا قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في المحيط الهندي- الباسيفيكي وجنوب شرق آسيا، والتي يمكن من خلالها للقوات الاميركية استعراض قوتها واطلاق اعمال عدائية ضد دول الجوار، عند الضرورة.

وتسهل هذه الاتفاقية الأمور التالية:

تمركز القوات الاميركية في داروين، لمدة ستة أشهر كل عام، على ان يصل عدد عناصرها الى 2500 من مشاة البحرية الاميركية. هذه القوات جرى تدريبها وهي مجهزة للنشر الفوري. وخلال اقامتها هلى الاراضي الاسترالية، تتدرب هذه القوات للحرب بمشاركة القوات الاسترالية، على مختلف المستويات والقطاعات، براً وبحراً وجواً.

يحق لهذه القوات استخدام جميع مطارات استراليا للطائرات المقاتلة والقاذفات على انواعها، كما يسمح لها بالوصول الى موانئ استراليا العسكرية.

باختصار، يسمح الاتفاق للولايات المتحدة، ليس فقط بنشر قواتها في داروين، لكن أيضاً بتخزين اسلحتها على الاراضي الاسترالية، وتوفير امدادات الحرب، بما في ذلك قطع الغيار والوقود والاسلحة على انواعها والزخيرة والقنابل. وتفتح موانئ استراليا امام البحرية، والمطارات ومدارجها للمقاتلات وطائرات الشحن والنقل،واستخدام القوة الخاصة بها.

ويجعل هذا الاتفاق استراليا قاعدة عسكرية رئيسية، يمكن للقوات الاميركية ان تشن منها اعمال عدائية في المنطقة، وتشمل كل الجزر التي تطالب بها الصين في بحر الصين الجنوبي.

ويعتقد بعض المراقبين المعلقين ان للولايات المتحدة مطامع لاقامة قواعد عسكرية لها في مضيق “ملاكا” Malacca، من اجل الضغط على الصين، من خلال حظر طريق الشحن الرئيسي لديها.

هذه الاتفاقية هي صالحة لـ25 عاماً مع امكانية تمديدها مجدداً. ويمكن لاحد الفريقين إلغاءها بعد اشعار مدته عام واحد على الاقل.

هذه الخطوط الرئيسية للاتفاقية التي وقعت عليها وزيرة الخارجية الاسترالية السابقة، جولي بيشوب ووزيرة الدفاع ماريس باين، نيابة عن الحكومة الاسترالية.

اتفاقيات سرية غير معلن عنها.

في عام 2016 جرى الاحتفال بمرور 50 عاماً على تأسيس قاعدة المخابرات الاميركية للاتصالات والاستخبارات العسكرية في باين غاب، خارج أليس سبرينغ في وسط استراليا.

هذه القاعدة هي فائقة السرية، يظهر القسم الصغير منها فوق الارض، لكن القسم الاكبر هو تحت الارض، ويحظر على المواطنين الاقتراب منها، وعلى المسؤولين، الدخول اليها.

ولا تزال هذه القاعدة تثير الشبهات، ليس فقط بسبب اقامتها على ارض خاصة بالسكان الاصليين الذين يعتبرون “حراس الارض”، بل بسبب القدرات التكنولوجية الفائقة التي تمتلكها هذه القاعدة السرية.

ويقال ان معظم الحروب التي تخوضها القوات الاميركية حول العالم تدار من هذه القاعدة، بواسطة الاقمار الصناعية.

وعلى مر السنوات الخمسين الماضية، ادعى مسؤولون استراليون انهم على اطلاع بما يجري داخل باين غاب (Pine Gap)، كما روج وزير الدفاع الاسبق كيم بيزلي، عام 1985. لكن بالواقع لم يسمح الا مرة واحدة لرئيس الوزراء السابق بيل هايدن بدخول هذه القاعدة لإلقاء نظرة عليها، ولمناقشة تبادل المعلومات بين البلدين.

وتسري اشاعات ان النفوذ الاميركي في استراليا هو اكبر مما يتصوره العقل. ففي حال نشوب حرب شاملة، يحق للولايات المتحدة ان تدير شؤون البلاد بالكامل، وتصبح الحكومة الفيديرالية وحكومات الولاية والاقاليم تأتمر بأوامر الادارة الاميركية. وتتحول جميع مصادر الطاقة والمصادر الاولية تحت ادارتها، كما توضع جميع مرافئ البلاد بتصرف القوات الاميركية.

قواعد اميركية في استراليا.

بعد ما يزيد على 50 عاماً من التعاون العسكري والتحالف السياسي مع الولايات المتحدة، تمتلك اليوم واشنطن اكثر من قاعدة على الاراضي الاسترالية، واذكر اهمها:

أليس سبرينغ وقاعدة باين غاب – تتضمن ثلاث منشآت ويعمل فيها حوالي ألف موظف اميركي واسترالي. وهي مجمع تجسس واستخبارات دولية يتضمن قدرات هائلة لادارة الحروب وقواعد حرب النجوم، وقسم للتصوير الجغرافي ومحطة الزلازل. وتعتبر هذه القاعدة الاضخم في العالم.

قاعدة Cape في شمال غرب استراليا، وهي قاعدة تتضمن ابراج اتصالات ومرصد شمسي تديره البحرية الاميركية.

محطات الزلازل في كل من غرب استراليا، هوبارت، سيدني، كوينزلاند، القطاع الشمالي، ميلدورا، ووغا ووغا….

قواعد الطيران العسكري في مناطق ريتشموند (نيو ساوث ويلز)، ليرماوت (غرب استراليا)، بريث وساليزبوري (جنوب استراليا). وعملاً باتفاقيات مشتركة يحق للقوات الاميركية- سلاح الجو، استخدام جميع المطارات العسكرية الاسترالية، عند الضرورة. وتتوزع هذه المطارات على جميع الولايات والاقاليم الاسترالية.

مراكز تدريب القوات الاميركية، ولديها مركزين اساسيين في شمال البلاد وكوينزلاند.

محطة نظام GPS في منطقة داريمان في فيكتوريا هذه اهم المراكز الاميركية المعروفة.

أخيراً، لابد ان نسأل هل تستطيع استراليا التحرر من الوجود والتأثير الاميركي على سياسة البلاد الاقتصادية والعسكرية؟ وهل بالتالي تستطيع اية حكومة استرالية الانفراد باتخاذ قرارات مستقلة، خاصة حول علاقات استراليا بدول الجوار، خاصة مع الصين، التي تعتبر الشريك التجاري الاول للابلاد.

باعتقادي ان القرارات تتخذ في مكان آخر والحكومات الاسترالية تلتزم بتنفيذها.