
في مفارقة تاريخيّة وسياسيّة لافتة، تأتي بعض أقوى الأصوات المدافعة عن اللغة العربيّة وقضايا العرب من خارج العالم العربيّ نفسه. أحد أبرز هذه الأصوات كان سيبويه، النحويّ الفارسيّ الذي أسّس لعلم النحو العربيّ. واليوم، تظهر إيران، الدولة غير العربيّة، كمدافع شرس عن القضيّة الفلسطينيّة، في وقت تتراجع فيه مواقف عديد من الحكومات العربيّة أو تلتزم الصمت. فماذا تقول لنا هذه الظاهرة المتكرّرة عن الهويّة، والمسؤوليّة، والدور العربيّ الغائب؟
وحين أتحدّث عن “الدور العربي”، فإنّما أعني بذلك جميع الدول الناطقة بالعربية: تلك التي ما تزال تؤمن بوحدة العرب كيانًا ومصيرًا، وتلك التي تفصل بين بلاد الشام وسائر الأقطار، بل وحتّى تلك التي كرّست حدودها القطريّة وفق ما رسّخه الانتداب وما أقرّته الأمم المتّحدة لاحقًا. فجميعها، رغم تباين الرؤى، في مركب واحد تعمل الإمبرياليّة الأميركيّة على إغراقه، بشراكة أوروبية، وبواسطة إسرائيل أوفى خادم لها في المنطقة. أي أنّ التكافل العربي ليس ترفًا أيديولوجيًا، بل ضرورة وجوديّة.
لم يُولد سيبويه (توفي نحو 796م) في الحجاز، ولا في نجدٍ، ولا على ضفاف الفرات. لم يكن عربيًّا، ولم تكن العربيّة لغته الأمّ. لكنّه هاجر إلى البصرة في العراق، وتتلمذ على أيدي كبار علماء اللغة، ليكتب لاحقًا كتابه الشهير “الكتاب”، الذي يُعدّ المرجع الأوّل في النحو العربيّ حتى يومنا هذا.
تُنسب إليه (على الأغلب قيلت عنه) العبارة الشهيرة “خذوا لغتكم من أعجميّ”. وسمِعْتُها كغيري من زملاء الدراسة، حين كنّا صغارًا قي المدرسة، من بعض معلّمي العربيّة، يطلقونها مع ابتسامة تهكّم. سواء كانت العبارة دقيقة أم لا، فهي تلخّص مفارقة جوهريّة: أنّ الغريب قد يصبح حارسًا أمينًا على تراث أمّة، حين يدرك قيمته ويخدمه بإخلاص. لم يمنح سيبويه العربيّة خدمة نابعة من العِرق، بل من حبّ المعرفة والانتماء لحضارة.
تقدّم إيران نفسها اليوم كأبرز داعم لقضيّة فلسطين، عبر دعمها السياسيّ والعسكريّ لفصائل المقاومة كحماس والجهاد الإسلاميّ وحزب الله، وعبر خطابها الرسميّ المعادي لإسرائيل. وتستخدم طهران هذه القضيّة لبناء صورتها كمدافع عن قضايا المظلومين في العالم الإسلاميّ.
لإيران حساباتها الإقليميّة ومصالحها الاستراتيجيّة دون شكّ، خصوصًا في ظلّ صراعها مع إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركيّة. لكنّها، على الرغم من ذلك، باتت صوتًا يعبّر عن الضمير الشعبيّ العربيّ أكثر من كثير من الأنظمة العربيّة، التي اختارت طريق التطبيع أو الانكفاء.
في المقابل، اختارت حكومات عربيّة عديدة نهج “التهدئة” أو “السلام الاقتصادي” مع إسرائيل، في الوقت الذي يتعرّض فيه الفلسطينيّون للحصار والقصف والتهجير. والقضيّة الفلسطينيّة لم تعد في صدارة أولويّات هذه الحكومات، بل أصبحت ملفًّا يُدار بمنطق “الحلّ الإقليميّ” أو يُهمَّش تمامًا.
هذا الغياب ليس سياسيًا فقط، بل وجوديًا. فكما كاد الإهمال أن يهدّد اللغة العربيّة في فترات من التاريخ، فإنّ غياب الدور العربيّ عن قضاياه المركزيّة اليوم يهدّد جوهر الهويّة الجامعة. (إن كانت هناك هكذا هويّةأصلًا.)
تطرح هذه المفارقة التاريخيّة والسياسيّة سؤالًا جوهريًا: هل يجب أن تنبع شرعيّة الدفاع عن قضيّة ما من العرق أو الأصل، أم من الموقف والالتزام؟ قصّة سيبويه تثبت أنّ المعيار الحقيقيّ هو الفعل، لا الهويّة البيولوجيّة. وإيران، رغم كلّ ما يمكن انتقاده في سياساتها، ملأت فراغًا تركه غياب الصوت العربيّ الفاعل.
هذه المقارنة لا تعني أنّ إيران فوق النقد، ولا أنّها وحدها المخلصة لفلسطين. لكنّها تضع العرب أمام مرآة: لماذا يضطّر الآخرون إلى الدفاع عن قضاياهم بالنيابة عنهم؟ ومن الذي فقد البوصلة؟
من النحو إلى النضال، يتكرّر المشهد ذاته: حين يتقاعس أصحاب القضيّة، يتقدم الغرباء. قد يكون ذلك دليلًا على عالميّة القضايا العادلة، لكنّه أيضًا إنذار خطير في ظلّ المطامع الإمبرياليّة التي صار أربابها يعلنونها بكلّ فخر. فها نحن نرى العرب يتجاهلون قضاياهم، ودورهم الحضاريّ، ولذلك نرى أنّ غيرهم يتكلّم باسمهم، ويدير دولهم ومجتمعاتهم سواء مباشرة أو من طريق العملاء المتستّرين بمناصب القيادة، ويقرّر مصيرهم.
كتبت مرّة: “بعض العرب لا يُتقن حتى صنع الغلط، فيلجأ إلى استيراده كما يستورد كل شيء.”
(يمكن قراءة نسخة بالإنكليزيّة على موقع الكاتب www.raghidnahhas.com