بقلم: د. راتب جنيد- أستراليا

تستند المأساة المستمرة في فلسطين إلى تاريخ معقّد من الخيانة السياسية وتفكك الأمة الإسلامية. فقد أدّى ضعف الدولة العثمانية، آخر خلافة إسلامية موحدة، وسقوطها إلى زعزعة استقرار المنطقة وترك فلسطين عرضةً للأطماع الاستعمارية والاستيطانية

. وعلى الرغم من أن الثورة العربية ضد الحكم العثماني سعت إلى تحقيق الاستقلال العربي، إلا أنها أسهمت – دون قصد – في تفكيك وحدة المسلمين السياسية دون أن تقي فلسطين من الهيمنة الأجنبية. وسرعان ما استغلّت الحركات الصهيونية والقوى الإمبريالية هذا الفراغ، ممهّدة الطريق لسلب الفلسطينيين أرضهم وتشريدهم.

ومنذ نكبة عام 1948، يعاني الفلسطينيون من احتلال استيطاني صهيوني لا يعرف الرحمة، يتمثل في القتل الممنهج، والتهجير القسري، والحصار الخانق، والانتهاك اليومي للمقدسات الإسلامية والمسيحية. وقد استمرّت هذه الجرائم على مدى أكثر من سبعة عقود، تُرتكب بإفلات تام من العقاب، تحت أنظار المجتمع الدولي اللامبالي، والأدهى من ذلك، وسط صمتٍ شبه كامل من الأمة الإسلامية.

إن النكبة لم تكن حدثًا مفردًا، بل نتاجًا لسلسلة من الخيانات المتتالية: بيع الأراضي الفلسطينية للكيانات الصهيونية، المؤامرات الجيوسياسية التي أعقبت سقوط الخلافة، والصمت المستمر والتواطؤ السياسي من قبل العديد من الدول الإسلامية في مواجهة هذا الظلم المتجذّر.

وهذا الصمت لا يُعدّ مجرد غياب للكلام، بل هو خيانة نشطة لقيم الإسلام الجوهرية في العدل والوحدة والتكافل. فقد أمر الله تعالى بقوله:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ۖ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾
(سورة النساء، الآية 58)

ومع ذلك، فقد تمّ التخلي عن هذا الأمر الإلهي في قضية فلسطين.

إن الكارثة الإنسانية الراهنة في غزة تمثّل نتيجة مباشرة لهذه الخيانات المتراكمة. وتصور التقارير الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة مشهدًا مروّعًا؛ فقد اتّهمت “اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق” التابعة للأمم المتحدة (يونيو 2025) الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، منها القتل العمد للمدنيين في المدارس والمساجد، وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية التعليمية والثقافية، والانتهاك المنهجي للقانون الإنساني الدولي.

وقد وثّق مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان الهجمات العشوائية على الأهداف المدنية، بما في ذلك المستشفيات، مما أوصل نظام الصحة في غزة إلى حافة الانهيار. وأفادت “صندوق الأمم المتحدة للسكان” بمقتل أكثر من 45,000 فلسطيني في العدوان الأخير، يشكّل النساء والأطفال قرابة 70% من الضحايا، في حين نزح قرابة مليونَي فلسطيني داخليًا بسبب القصف المستمر والحصار.

لكن الخيانة لم تأتِ من الخارج فحسب، بل تفاقمت بفعل التشرذم الداخلي بين المسلمين. فالطائفية، والتنازع القومي، والأجندات الجيوسياسية المتضاربة، كلها مزّقت قدرة الأمة على التحرك برؤية أخلاقية موحدة وإرادة جماعية. وبدلًا من أن تمثّل الأمة صفًّا واحدًا، بقيت منقسمة، مما أضعف مصداقيتها وساهم في إخماد صوت العدل في المحافل الدولية.

كما فشلت المؤسسات القانونية الدولية في إنصاف الشعب الفلسطيني. فعدد لا يُحصى من قرارات الأمم المتحدة بقيت حبراً على ورق، والإجراءات أمام المحكمة الجنائية الدولية تسير ببطء شديد دون نتائج ملموسة، بينما تستمر الدول الغربية الكبرى في حماية الكيان المحتلّ من أي محاسبة. وهذه الحصانة المتجذّرة تغذي دائرة العنف والاحتلال واليأس.

ومع ذلك، يشهد التاريخ على صمود الشعب الفلسطيني. فمن المخيمات إلى القرى والمدن، يواصلون مقاومتهم بثبات وعزّة. وقد قال النبي محمد ﷺ:
«المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير»
(رواه مسلم، رقم 2664)

وهذا الإيمان القوي يتجلى في صلابة الفلسطينيين وصبرهم.

لقد آن للأمة أن تستفيق من سباتها الأخلاقي والسياسي. يقول الله تعالى:

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾
(سورة النساء، الآية 75)

فأين الأمة إذًا من هذا النزيف المستمر؟
إنه سؤال يستوجب التأمل العميق والعمل العاجل.

تكمن الإجابة في تجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية، وتحقيق وحدة حقيقية، وتقديم الدعم الشامل – السياسي والاقتصادي والاجتماعي – للقضية الفلسطينية. فالصمت أو المجاملة أو التعاون الاقتصادي مع المحتل ليس سوى خيانة للأخلاق الإسلامية وللمبادئ الإنسانية العالمية.

إن الطريق إلى الأمام يتطلّب يقظة جماعية: من الحكومات، والمجتمع المدني، والأفراد. ينبغي أن تُبنى السياسات الخارجية على أساس المبادئ، وأن تُرفع أصوات الفلسطينيين في المحافل الدولية، وأن تُصلَح المناهج التربوية لتعكس حقيقة الاحتلال والمقاومة.

كما قال النبي محمد ﷺ:
«مَن رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»
(رواه مسلم، رقم 49)

فالصمت والتقاعس في وجه الظلم لا يُعدان حيادًا، بل يضعفان الإيمان وينقضان الأمانة التي وُضعت على عاتق المسلمين.

وتتجلى هذه الخيانة كذلك في الفضاءات الاجتماعية والتعليمية في العالم الإسلامي، حيث تؤدي اللامبالاة والتضليل والانفصال عن الحقيقة إلى حجب واقع فلسطين عن الأجيال. إن إحياء التعليم الصادق والتضامن الحقيقي ليس خيارًا، بل ضرورة لا بد منها.

وعلى كل مسلم، وكل مؤسسة إسلامية، وكل مجتمع، أن يسأل: ماذا نفعل – على وجه التحديد – لإنهاء هذا الظلم؟ كيف نكسر قيود الصمت والخيانة؟

الجواب يكمن في الفعل المتواصل: مناصرة سياسية، وضغط عالمي، وتوعية جماهيرية، وتضامن لا يتزعزع. حينها فقط يمكننا استعادة البوصلة الأخلاقية التي كانت الأمة يومًا تستنير بها.

ففلسطين اليوم تقف على مفترق طرق بين نكبة تاريخية وخيانة معاصرة. إنها اختبار لضميرنا الأخلاقي وإرادتنا السياسية. ومن يتخلّى عن فلسطين، فقد تخلّى عن العدالة ذاتها.

ويبقى السؤال قائمًا:
هل ستنهض الأمة لتلبّي نداء هذا الزمن؟ أم ستظلّ شريكة في صمتها؟