على امتداد الفترة الماضية تحوَّل قضاءُ البترون إلى مسرحٍ مُصغَّرٍ للسياسةِ اللّبنانيّة بنسختِها “المحلِّيّة”؛ إذ يلتقي عصبُ العائلة بوهجِ الحزبيّة، وتتمازج اعتباراتُ الإنماء بموازينِ القوى الوطنيّة والإقليميّة. اليوم، وبعد أن خاض لبنان الجولةَ الأولى من الانتخابات البلديّة، تحلُّ الجولة الثانية على قرى وبلدات هذا القضاء الذي لطالما شكَّل “خزانًا انتخابيًّا” يُقاس عليه مزاجُ الشمال المسيحيّ. وما بين مدينةِ البترون المركزيّة والبلداتِ البحريّة والوسط والجرد، تنسجُ الأحزابُ الكبرى — “القوّاتُ اللبنانيّة”، “التيّارُ الوطنيُّ الحرّ”، “تيّارُ المردة”، و”الكتائب” — تحالفاتٍ هجينةً، يعادلها طموحٌ شبابيٌّ واستقلاليٌّ يرفع شعار “التغيير” ويختبره في ساحاتٍ صغيرةٍ يعلو فيها هتاف “بلديّتي أوَّلًا”.

يضمُّ القضاءُ 31 بلديّةً بعد استحداثِ نيحا ورشكيدا، ويتنافس، هذا الأحد، 627 مرشَّحًا على المقاعد البلديّة، فيما يخوض 273 مرشَّحًا معارك المُختاريّة. وقد حُسِمت بالتوافق مجالس بيت شلالا ورشكيدا، إضافةً إلى 28 مُختارًا، وفق قائمقام البترون روجيه طوبيا.  وإن كان لا يضمُّ قضاءُ البترون سوى 70 ألفَ مقيمٍ دائمٍ، لكنّ شبكتَه الاغترابيّة تتجاوز 120 ألفَ ناخبٍ مُسجَّلٍ. هؤلاء يشكِّلون “صندوقَ بريدٍ” للأحزاب المسيحيّة إلى الشتات؛ فالنتائج هنا تُترجَم دعمًا ماليًّا هناك. لذلك يعتبر النائب جبران باسيل أنّ “البترون هي خطوطُ التماسِّ السياسيّ بين الماضي والمستقبل، ومَن ينتصر بلديًّا يفرض إيقاعَه على القوى المسيحيّة”.

مدينة البترون: توازنات دقيقة ولائحتان متنافستان
تُعَدّ مدينة البترون قلبَ القضاء وأكبرَ ساحاته الانتخابيّة، وفي مجلسها البلدي 15 مقعدًا تتنافس عليها لائحتان. الأولى بعنوان “كلّنا للبترون” ويقودها رئيس البلديّة الحالي رجلُ الأعمال مرسيلينو الحرك، السّاعي إلى تمديد رئاسته المستمرّة منذ 25 عامًا. وقد نجح الحرك، المعروف بقدرته على نسج التحالفات، في جمع الأضداد السياسيّة في لائحة توافقيّة نادرة تجمع “القوّات اللبنانيّة”، “التيّار الوطنيّ الحرّ”، “الكتائب اللبنانيّة”، و”تيار المردة”، ما يعكس تفاهماتٍ دقيقةً بين هذه القوى المتناقضة سياسيًّا.

على الضفّة المقابلة تتقدَّم لائحة “للبترون وأهلِها” برئاسة المحامي ميشال الدَّغْل، وهي لائحة غير مكتملة (11 مرشَّحًا فقط) تحظى بدعم عائلاتٍ ترى في استمرار الحرك وهيمنة الأحزاب تهديدًا لاستقلاليّة القرار المحلّي. يَعِد الدَّغْل بموازنة تشاركيّة، وبثّ مباشر لاجتماعات المجلس، ولجنة رقابة ماليّة من المُغتربين. ويُدرك أنّ المعركة ليست على الأرقام بقدر ما هي على الخطاب: هل يسمح المزاج البتروني بأن يُحدِث المفهوم التشاركيّ شرخًا في كتلة التحالف الرباعي؟ يحسم أحد الناشطين المستقلّين قائلًا: “إذا اخترقنا بثلاثةِ أصواتٍ فقد ربحنا المعركة الأخلاقيّة، ولو خسرنا المجلس”.

بهذا المشهد تتأرجح انتخابات البترون بين استمراريّة مشاريع الحرك من جهة، والدعوة إلى التغيير والشفافيّة التي ترفعها لائحة الدَّغْل من جهة أخرى؛ ما يجعل خيارات الناخب واضحةً ومحمَّلةً بدلالاتٍ تتجاوز حدود البلدة إلى خريطة القوى المسيحيّة كلِّها.

شكا: “معركة فوق وتحت
لبلدةِ شكا خصوصيّةٌ تاريخيّةٌ وجغرافيّةٌ لافتة. فهي كانت في السّابق جزءًا من قضاءِ الكورة، لكن أُعيد ضمُّها إلى قضاءِ البترون في خطوةٍ فسَّرها مراقبون بأنّها جاءت لأسبابٍ طائفيّةٍ بحتّة. فقد كانت شكا، التي تضمُّ غالبيّةً مارونيّةً واضحة، ملحَقةً بقضاءِ الكورة ذي الغالبيّةِ الأرثوذكسيّة. وقد أحدث نقلُ تبعيّتِها إلى البترون تغييرًا كبيرًا في ديناميكيّاتها السياسيّة والاجتماعيّة.

هذا الانقسام ليس جغرافيًّا فحسب، بل هو سياسيٌّ وعائليٌّ أيضًا. فالمنطقةُ السُّفلى من شكا، الأقربُ إلى البحر، تميل عادةً إلى دعم لائحةِ “كلّنا شكا” الّتي تمثّل النهجَ الحاليّ في إدارةِ البلديّة، بينما تدعم المنطقةُ العُليا بقوّةٍ لائحةَ “شكا بتستاهل” الساعيةِ إلى التغيير والانقلاب على سنواتٍ طويلةٍ من السيطرةِ التقليديّة.

تتقدَّم لائحةُ “كلّنا شكا”، بقيادةِ إسكندر كفوري، نجلِ الرئيسِ الحاليّ للبلديّة الذي شغل منصبَه لمدّةٍ بلغت 27 عامًا متواصلة، في مشهدٍ يراه بعضُهم امتدادًا مباشرًا لحُكم العائلة. يحظى كفوري الابن بدعمٍ قويٍّ من “التيّار الوطنيّ الحر” و”تيّار المردة”، إضافةً إلى عائلاتٍ كبيرةٍ مثل روكز والشّاغوري، ويقدِّم نفسه رئيسًا يحمل رؤيةً جديدةً قائمةً على الاستمرار في تطوير ما بدأه والده، على الرغم من الانتقاداتِ الشديدة التي تُوجِّهها قطاعاتٌ واسعةٌ من الأهالي لفترةِ حكم كفوري الأب، خصوصًا في ما يتعلّق بضعف الإنجازاتِ في القطاعات الحيويّة كالنشاطات، والبيئة، والأمن.

على الجهةِ الأخرى تقف لائحةُ “شكا بتستاهل”، بقيادةِ غابي بطرس وجورج عبّود، معتمدةً مبدأ المداورة بينهما على رئاسةِ البلديّة كلَّ ثلاثِ سنوات. وتحظى هذه اللائحةُ بدعم “القوّاتِ اللبنانيّة” و”حزبِ الكتائب”، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من العائلات المعروفة في البلدة، مثل المكش وسركيس، فضلًا عن قسمٍ كبيرٍ من عائلة روكز الّتي يُظهِر ولاءُها انقسامًا بين اللائحتين.

لا يمكن فهمُ الانتخاباتِ في شكا من دون التوقّف عند دور العائلات. فعائلةُ كفوري، التي تحكم البلدةَ منذ نحو ثلاثة عقود، تتمتّع بنفوذٍ تجاريٍّ قويٍّ – ولا سيّما في شؤون البحر والتجارة – ما مكّنها من بناء شبكةِ علاقاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ واسعة. في المقابل تسعى عائلةُ بطرس، المعروفةُ بامتلاكها لمعاملِ الدجاج في لبنان، وعائلة عبّود، التي تمثّل ثِقَلًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، إلى كسر هذا النفوذِ التقليديّ، مُتسلِّحةً بدعمٍ حزبيٍّ وتوجُّهٍ شعبيٍّ واسعٍ يطالب بالتغيير.

إنّ حالةَ الانقسام داخلَ العائلاتِ نفسها، كما يظهر جليًّا في موقف عائلةِ روكز التي تتوزَّع بين اللائحتين، تدلّ على عُمقِ التحدّي الذي تُواجِهه شكا في هذه الانتخابات؛ إذ تتحوّل المنافسةُ إلى مواجهةٍ عائليّةٍ سياسيّةٍ مُركَّبةٍ يَصعُب التنبّؤ بنتائجها بسهولة.

تتجاوزُ الانتخاباتُ في شكا حدودَ المنافسةِ السياسيّةِ النزيهة؛ فهناك حديثٌ مُتزايدٌ عن استخدامٍ كثيفٍ للمال الانتخابيّ، حيث تتّهم لائحةُ “شكا بتستاهل” خصومَها باستعمالِ مواردَ ماليّةٍ كبيرةٍ – يُعتقَد أنّ بعضَها أتى من العائلاتِ الثريةِ الداعمة – لاستمالة الناخبين. ويُشار إلى استقدامِ ناخبين من الخارج عبر توفيرِ تذاكرِ السفرِ والإقامة، وهو أمرٌ يثير استياءً كبيرًا لدى الناخبين المحلّيّين.

كما اشتعلت المواجهةُ على خلفيّة قيامِ البلديّةِ الحاليّة بافتتاح الملعبِ البلديّ قبل ساعاتٍ قليلةٍ من الصمتِ الانتخابيّ، وهو ما اعتبرته اللائحةُ المنافِسة استعمالًا غير مشروعٍ لمواردِ البلدةِ العامّة في حملتها الانتخابيّة. وعلى إثر ذلك تقدّمت “شكا بتستاهل” بشكوى رسميّةٍ إلى محافظةِ الشمال ضدّ البلديّةِ الحاليّة ولائحةِ “كلّنا شكا”، في خطوةٍ زادت حدّةَ الصراع السياسيّ.

تنّورين: تحالف القوّات ومجد حرب
في تنّورين، أكبرِ بلداتِ القضاء، يبدو المشهدُ مُختلِفًا قليلًا. فقد برز تحالفٌ قويٌّ بين مجد بطرس حرب و”القوّاتِ اللبنانيّة”، أفضى إلى تشكيلِ لائحةِ “تنّورين قبل الكلّ” برئاسةِ ياسر نعمة، وسطَ تفاهمٍ على توزيعِ المقاعدِ بين الفريقَيْن. وتنّورين، التي لطالما عُرِفت بأهميّتها السياسيّة، طرحت برنامجًا انتخابيًّا واضحًا يتمحور حول الشفافيّة والإنماءِ المتوازن، والتشديدِ على تطويرِ السياحة والزراعة والشباب. كما أظهرت اللائحةُ حضورًا نسائيًّا لافتًا بأربعِ مرشّحاتٍ، في مؤشرٍ إلى توجّهاتٍ نحو التجديد وكسرِ التقليديّة في العمل البلديّ.

حمّات: معركة شبابيّة عابرة للأحزاب
أمّا بلدةُ حامّات، فوُصِفَت بأنّها “أمُّ المعارك” على ساحلِ البترون، حيث يتنافسُ الشبابُ مع الحرسِ القديم. يقودُ اللائحةَ الشبابيّةَ “حامّات بلدة” رئيسُ نادي حامّات نيقولا أيوب، ا(32 عاماً) والمدعومُ من “القوّاتِ اللبنانيّة” إلى جانبِ أسماءٍ من أحزابٍ مختلفةٍ مثل “الحزبِ السوريّ القوميّ”، “الشيوعيّ”، “الكتائب”، و”التيّار الوطنيّ الحر”. في المقابل يقود نائبُ الرئيسِ الحاليّ رياض حليحل لائحةَ “كلّنا لحامّات”، المدعومةَ من البلديّةِ الحاليّة و”التيّار الوطنيّ الحر”، سعيًا إلى استمرارِ النهجِ القائم.

كوبا وعبرين: العائلات تحسم المعركة
في كوبا – البلدةِ الّتي لا يتجاوز عددُ ناخبيها 924 – يصبح كلُّ صوتٍ مرجِّحًا، ولا سيّما أصواتُ ستّينَ ناخبًا مُجنَّسًا أُعيد تسجيلُهم بعد تعديلِ القوائم. تطرح لائحةُ “صار وقت التغيير” برئاسةِ إيلي أبي نادر “بطاقةَ كوبا الذكيّة” لإدارةِ الجباية إلكترونيًّا، في مقابل لائحةِ “كوبا لأهلها” برئاسةِ جوزيف دعبولو التي تستحضر “التقاليد” وتَعِد بتحويلِ المدرسةِ الرسميّة إلى أكاديميّةٍ زراعيّة. الطابعُ العائليُّ غالب، وغرفةُ عمليّاتِ الأمنِ الداخليّ تتخوَّف من تشنُّجٍ محتملٍ يوم الفرز، إذ يُتوقَّع أن يراوح الفارقُ بين المتنافسَيْن مقعدَيْن إلى ثلاثة.

أمّا عبرين، الواقعةُ على خطِّ تماسٍ رمزيٍّ بين الساحل والوسط، تشهد مبارزةَ لائحتَيْن تعتمدان مبدأ المداورةِ الثلاثيّة في الرئاسة. “نبض عبرين” المدعومةُ من القوّات، والكتائب، ومجد حرب، يتناوب فيها الصحافيِّ الان درغام والمحامي عادل شاهين، وتواجهها “إيد بإيد لعبرين” المدعومةُ من التيّار والمردة برئاسةٍ تبادليّةٍ بين ساسين صليبا وجوزيف ساسين. الخلفيّةُ العائليّةُ حاضرة، لكنّ الخلافَ الحقيقيَّ يتمحور حول مستقبلِ المنطقةِ الصناعيّة التي يسعى الفريقان إمّا إلى توسيعها أو تجميدها تبعًا لأولويّاتِ البيئة والسياحة.

تحدّياتٌ سياسيّةٌ وإنمائيّةٌ مشتركة
رغم الخصوصيّات، يبقى التحدّي الأساسيُّ في قضاءِ البترون توجيهَ الانتخابات نحو برامجَ إنمائيّةٍ حقيقيّةٍ. فالمواطنون، يطمحون إلى بلديّاتٍ تعمل لخدمتهم بشفافيّة، بعيدًا عن الحساباتِ السياسيّة الضيّقة. وإنْ كانت هذه الانتخاباتُ غارقةً في تعقيداتِ السياسة، فهي فرصةٌ حقيقيّةٌ لتحديدِ هويّةِ العملِ البلديّ للسنواتِ المقبلة، واستحقاقٌ يعكس مدى رغبةِ أهلِ البترون – المنطقة الّتي تحمل رمزيةً سياسيّةً وسياحيّة في التغيير أو الاستمرار. وتحملُ الانتخاباتُ البلديّةُ في هذا القضاء بُعدًا أعمقَ من مجرّدِ تنافسٍ على السلطةِ المحليّة؛ فهي مزيجٌ من السياسة والعائلة والإنماء، ومؤشِّرٌ إلى قدرةِ القوى المحليّة والسياسيّة على تجاوزِ خلافاتها أو تعميقها.

increaseحجم الخط