للكاتبة دينا سليم حنحن
أ.د عمر عتيق

تختزل الدلالة السيميائية لعنوان الرواية « سقــــوط المـــعبد الأخــــير» البنية الدلالية العميقة والبؤرة الفكرية للخطاب السردي، فسقوط المعبد الأخير في العنوان يناظر عجز الطقوس

والشعائر المقنّعة بالدين عن تحقيق خلاص الإنسان ، وتوفير الأمن النفسي والعدالة الاجتماعية والتحرر والانعتاق.
الفضاء المكاني بين التقديس والتدنيس
يتوزع المكان في الرواية على فضاءين مغلقين ؛ المعبد والقرية، وتتماهى صفات المكان مع الصفات النفسية للشخصيات، فالمعبد في الرواية يبدو سجنا محاطا بسور عال يأوي إليه أناس متعبون محبطون يائسون يبحثون عن الحرية والخلاص، وفي داخل المعبد تتجلى تفاصيل حياة مثقلة بالتوتر والاحتقان والاغتراب والرغبة بالخروج من المعبد. وتمتزج صفات المكان بالأبعاد النفسية للشخصية الرئيسة « أودينيل» التي (أصبحت نزيلة وحيدة، في حجرة كئيبة بنافذة واحدة، سقفها منخفض وبابها ضيق، حجرة خابية، خمدت فيها الحياة ويجسد هذا الوصف المكاني داخل المعبد البنية النفسية لـ أودينيل التي تفكر دائما بالخروج من المعبد طلبا للخلاص والحرية وتحقيق إنسانيتها كما يتجلى في قولها : (أحب الحياة ومن حقي أن أحيا، وأن أحظى برؤية العالم الخارجي المقفل في وجهي) ولا يخفى أن المعبد ينبغي أن يكون فضاء روحانيا يجد فيه ساكنوه خلاصا من وطأة الحياة في الخارج ،وملجأ من الأذى والشر، ولهذا يشكل الفضاء المكاني للمعبد مفارقة مثيرة.
تشكل مظاهر الطبيعة المحيطة بالمعبد توافقا مع البعد النفسي للشخصيات التي تسكن المعبد ، فالطبيعة غاضبة واجمة حزينة، والشمس في الصباح تفتقر لصفاتها المألوفة كالإشراق والبهجة والتبشير بيوم جديد ، فالصورة البصرية التي رسمتها الكاتبة للشمس تعبر عن البنية النفسية للشخصيات كما يبدو في وصف الساردة(تريثت الشمس وانتظرت في خدر أمها، ترددت الظهور، توارت أشعة خجلى في بطانة الغيوم، فاقدة القوة وضائعة، وتكاسل شعاع آخر فاقدا زهوه، لكنه خرج، دمعت
عيون الشمس الباهتة، تزمّت بقسوة، غير مراعية أحلام ساكني المعبد العتيق) فالصورة الفنية الاستعارية للشمس التي تبدو مترددة متوارية متكاسلة حزينة باكية تناظر البعد النفسي لشخصية أودينيل وزميلاتها في المعبد.وكذلك الصورة الاستعارية الصوتية للرياح تشخص البعد النفسي للشخصيات ، إذ (تلف الرياح الشديدة أسوار المعبد، وبغضب تحولها إلى مسرح نقمتها، تأتي بأعنف ما لديها من عواصف، تزمجر بغلاظة فتوقظ من هم في سبات، تحتك في الجدران العالية، تغزو البرج وتهز كيانه).
تتماهى الصورتان الاستعاريتان (البصرية والصوتية \ الشمس والرياح) مع الصورة النفسية لساكني المعبد التي تصفها الكاتبة بقولها : (اجتاحت ساكني المعبد وحوش من الوحدة، غلفت القلوب بأنات الحرمان، وتضاعفت الرّهبة كلما حلّ الفصل الكئيب، سكن القلق المكان النائي، وارتاعت البقعة المُقفرة وتخبطت في الهموم).
يمتد التعالق بين الوصف المكاني والبعد النفسي للشخصيات إلى صورة القرية المغلقة، إذ لا تختلف دلالات صورة الطبيعة ، والصورة النفسية لأهل القرية عن صورة المعبد في بعديها المكاني والنفسي، فيجسد الوصف الخارجي والداخلي لبيت (أم هذا) الصفات النفسية والسيكولوجية لها ، فمنظره من الخارج (بيت قديم ومتهاو ..ساندته من الأمام أشجار عنب معمرة … قصباتها يابسة وأغصانها ناشفة، بسطت، ووصلت أعلى السقف، أحيط البيت بحفر مائي عميق، امتد على طول السور من جهاته الأربعة) ومنظره من الداخل يعبر عن اعتقادها بطقوس السحر والشعوذة فقد (نصبت على الرفوف تحف مكررة…. نقشت على بطونها هياكل غير مفسّرة، أجسادها طويلة ونحيفة، وجوهها غامضة الملامح ومتآكلة الخدود، حملت أنوفا طويلة بنية اللون، وذقون مجدولة لونها أسود)
تجسد شخصية أودينيل البراءة والفطرة ، بقيت حبيسة المعبد ستة عشر عاما ، وحينما خرجت إلى القرية ، وكُلفت بالذهاب إلى ضريح (هذا) الذي دفن تحت أنقاض الجبل ،لتقيم الصلوات والابتهالات
وإيقاد الشموع ليخرج (هذا) من ضريحه ، اعتقدت أنها نجحت في إخراجه، وتوهمت أن الذي ضاجعها هو الميت الغائب المنتظر المخلص ، ثم اعتقدت ثانية أن الذي أحبته وضاجعته ليس شخصية(هذا) ، وإنما الراعي (واعترفت لنفسها أن الذي منحها الحب الأول، ليس (هذا) بل الراعي المجهول الذي اختفى مع قطيعه عندما دخل الممر الجبلي) ، ولهذا بدت مظاهر الطبيعة المادية بسبب الصدمة والخيبة هامدة فارغة من دلالاتها حينما مرت أودينيل أمام المدرسة الوحيدة في القرية شاهدت(كرة مفرغة من الهواء متروكة في زاوية ما، توقفت الأراجيح الصدئة، كما توقفت المياه داخل الصنابير العتيقة، مدّت العناكب خيوطها وشبكت أشجار الصنوبر القريبة من نوافذ الصفوف، وأغلقت المساحة الضيقة، تراكم الغبار وغطى الزجاج، غُلفت بعض النوافذ بالكرتون السميك، جفّ نبات الصبار المزروع في الأصص، وسُدّت أحواض الأزهار بالأسمنت، وتكسرت الحواجز الخشبية عند البوابة.) ويناظر هذا الخراب المادي في سياق وصف المدرسة خواء روحانيا مثقلا عانت منه أودينيل.
لا تقتصر التماهي بين الوصف المكاني والوصف النفسي على الفضاء المادي ، وإنما يمتد إلى الفضاء الإنساني ، إذ إن شعور أودينيل بالخيبة والصدمة والانكسار بعد أن توهمت أن الذي أحبته ليس (هذا) وإنما الراعي (تأملت مشية العجائز بسيقانهم المقوسة، تكاد لا تطأ الأرض، وكأن الأرض بدورها، لا تحتمل خطواتهم العرجاء…. إنهم غزاة وثقيلي الظلّ عليها، منكسرون، ومستسلمون، وخاضعون، يخوضون بثقل وجودهم، يوميا وعدة مرات، الطرقات ذاتها الفارغة من الشباب.)
الخلاص الفردي والجماعي بين الوهم والحقيقة
تُضمر الرواية فلسفة الخلاص الفردي والجماعي بوساطة شخصية أودينيل التي اعتقدت أن خروجها من المعبد يحقق خلاصها وحريتها وإنسانيتها، إذ بقيت حبيسة المعبد ستة عشر عاما، شعرت فيه بالضجيج والعدم (وظلت تنتظر لحظة التخلص من المكان، ومن ضجيج العدم الذي استحوذ على دواخلها، قضى الجميع جلّ أوقاتهم في الاعتكاف والتعبد، بالنسبة لها، ما هو إلا الخنوع والخضوع).
حينما تحقق الخلاص الفردي بخروجها من المعبد ووصولها إلى القرية المجاورة ،وجدت نفسها مكرهة على تحقيق الخلاص الجماعي لسكان القرية ، خرجت من مأساة المعبد إلى جحيم القرية .
تؤسس الكاتبة لفلسفة القلق الوجودي قبل وصول أودينيل إلى القرية بوساطة المونولوج الداخلي على لسان أويدنيل التي تصف الأرض أنها( كوكب مشبع بالغموض وخالي من المحبة، مسكن جميع الأحياء والأموات، والملحمة مستمرة على سطحه تمزّق فوضاها أرواحنا) وتتساءل الساردة باستنكار واستغرب عن تسمية العالم بـ مملكة البشرية (لماذا يسمى هذا الكوكب مملكة البشرية وأيقونة الجمال الإلهي، اسم على غير مسمى؟). ويمهد هذا التوصيف للحياة على الأرض للمشهد المأساوي للحياة في القرية الغارقة في معتقدات عجائبية طقوسية أسطورية غرائبية.
ترمز القرية بفضائها المحدود المغلق ، ومكوناتها البيئية والبشرية والفكرية إلى محنة الإنسان في العالم المثقل بالشر والقلق والترقب والحذر والمتطلع للحرية والخلاص والسعادة. ويقترب سبب إغلاق منافذ القرية من الأساطير والأحداث الكونية المتخيلة حينما انهار جبل وانشقت الأرض فابتلعت عددا من سكان القرية التي أضحت بلا منفذ. وتصرح الكاتبة قبيل نهاية الرواية بالدلالة الرمزية لحالة القرية إذ (يوحي مشهد البيوت، إلى أفول عصر الإنسانية الساقطة من رحم العالم المشبوه بقدراته، زقاقات قديمة ….أكلت العفونة أعلاها، رطوبة ظاهرة عند الزوايا والصدوع، سكنت الأعشاب الضارة، والطَّحالبُ أفواه المزاريب…. مشهد يوحي إلى الزوال رغم المتانة الواهمة.)
تختزل دلالة إغلاق منافذ القرية عناقيد دلالية أسطورية ورمزية ؛ فشخصية (أم هذ) الأكثر إثارة وغرابة تجسد « الحاكم» الذي يعد شعبه بالخلاص بوساطة الطقوس والشعائر والأساطير التي يصدقها أهل القرية مكرهين ، إذ لا يجرؤ أحد على مخالفة أوامر (أم هذا ) التي طلبت من أودينيل أن تتزوج من ابنها (هذا) الذي ابتلعته الأرض ، لتنجب منه ذكرا لكي تزول اللعنة عن القرية ، لأن نساء القرية توقفن عن إنجاب الذكور بعد انهيار الجبل وانشقاق الجبل . وصدّق أهالي القرية أن روح (هذا)
المعذبة المعلقة بين الأرض والسماء ستبقى معذبة حتى يتزوج من أودينيل وينجب منها ذكرا ؛فتزول اللعنة عن القرية ، وتعود السكينة والطمأنينة لروح ( هذا ) الذي ابتلعته الأرض.
عطفا على ما تقدم تجد أودينيل نفسها مسؤولة عن الخلاص الجماعي لأهالي القرية بقبولها الزواج من شخص ميت تذهب إلى ضريحه تتلو الصلوات والأدعية لكي يخرج من ضريحه فيتزوجها. بدأت مهمة أودينيل حينما جاء راعي شؤون القرية (ياموت) لاصطحابها من المعبد إلى القرية قائلا لها : (نعم أنتِ، بموافقتك فقط تحققين أحلام جميع أهل القرية، لا تهتمي لمشاق الطريق.)
يزداد إيمان الناس بفكرة المخلص أو الخلاص كلما زادت معاناتهم من تفاصيل حياة فُرضت عليهم ، ولا يستطيعون تغييرها بسبب تسلط الفئات المتنفذة سياسيا ودينيا التي تتحكم في تفاصيل حياة الناس ، ويغيب دور العقل في هذه الحالة كما تصف الساردة بقولها : (بعد هبوب العاصفة الجيولوجية التي أدّت إلى تغيير معالم المنطقة، من ذلك الحين، تبدّلت المعتقدات، وتبنى الناس أفكارا جديدة بالية ورثّة، تعلقنا بها من أجل الخلاص.)
تربط الكاتبة فكرة الخلاص الجماعي بتسلط الفكر الذكوري في المجتمع العربي، فالمخلّص في الثقافات الدينية كلها هو رجل (ذكر) منتظر ، ولا توجد معتقدات تنتظر امرأة مخلّصة ، وكأن الرجل المخلص قادر على هزيمة الشر وعودة السكينة والطمأنينة إلى الناس والطبيعة وحده ، فالمخلص الرجل ( الذكر) مقدس يقترب في صفاته وقدراته من (الإله) ،ولهذا حزن أهل القرية حينما أنجبت (بدر) أنثى استقبلوها بالعويل واللطم حزنا على المولد الذكر الذي لم تنجبه(بدر) ، و(كانت أودينيل شاهدة على مشاهد هستيرية، هبطت النساء هبوطا جماعيا إلى الأرض ولطمن وجوههن ….وأخذت تبكي لوعة وحسرة، راقبت النسوة من حولها، وكأنهن في عزاء، نثرن شعورهن في الهواء حزنا على المولودة الجديدة الشؤم من ولادة الأنثى التي أتت بعد انتظار طويل، تمّ الترحيب بها عويلا وبكاء، عند ولادتها، ضاع الأمل الوحيد في الخلاص من المحنة الجماعية).
أوهام السلطة المقدسة
تشير الكاتبة إلى العلاقة الوثيقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية التي تتمثل بسيطرة( أم هذا) على قرارات المعبد ، إذ لا تجرؤ مديرة المعبد ( السلطة الدينية) على مخالفة أوامر السلطة السياسية.
وتنبه على قدرة السلطة السياسية على توظيف المنافقين التابعين لها والمشتغلين معها والمنفذين لقراراتها كما في قول راعي شؤون القرية لـ أودينيل :(انظري، ظهر بيت (أم هذا) من بعيد، امرأة مباركة وميمونة، كل من يقترب منها يتبارك) ، ولكن الحقيقة أن (أم هذا) رمز للظلم والاستبداد والجهل. وهؤلاء الوسطاء بين القوة المهيمنة والرعية المسالمة مصابون بالانفصام ، لأن المونولوج الداخلي على لسان راعي شؤون القرية كشف عن هذا الانفصام في قوله : (كم ستمكث فتاة بريئة عند امرأة شريرة لا تعرفها، ليتها تقوم بمهام الابنة حقا).
تنبه الكاتبة إلى قضية المهمشين الغارقين في أعمالهم الروتينية الفاقدين للأمل بالخلاص ،المستسلمين لوتيرة الحياة التي لم يختاروها ، ويجسد هؤلاء (مشهد المتقشفين الأبرار، قلوبهم الحنون وعقولهم النظيفة، يعيشون حالات التأمل الطويلة، يكدون في عملهم الدؤوب، يحرثون الأرض ويحلبون الماشية، يلتزمون وينفذون قوانين يومية صارمة … أسلوب حياة مرير، تعب وإرهاق، خضوع، وخنوع، وانكسار… بمرور الوقت، تحولت الهمهمات، والشكاوى إلى نحيب مستمر وصامت، وأصبح عادة، لا أحد سعيد هنا!)
تشكل عودة ياموت الابن( الصغير) مقابلا لغطرسة السلطة الحاكمة في القرية المتمثلة بـ (أم هذا) . ويعد ياموت الابن نصيرا للمهمشين ، ولهذا تشكل سلطة (أم هذا) وثقافة وجرأة ياموت الابن ثنائية المركز والهامش في الكون ، فأم هذا تجسد المركز المتسلط ، وياموت يمثل الهامش المنتفض على طغيان المركز، عطفا على ما تقدم يصرخ ياموت الصغير في نهاية الرواية (لن أسلّم نفسي في عهدة الجنون، ما يحدث ضرب من الجنون، الجنون كمّاشة، سوف أقاوم!) ويتحدى رمز التسلط ( المركز) أم هذا في حوار مفصلي. أرادت أم هذا أن تزوجه من فتيات القرية فاختار عمدا أن يتزوج من شخصية (رسمية) العرجاء ، وهذا الاختيار انحياز للمهمشين . ويلتقي ياموت مع أودينيل صدفة فيشجعها على الرحيل عن القرية الموبوءة بالخرافات (، أراد أن يخبرها بما خطط له، العودة من حيث أتى، والتخلص من البؤرة الملوثة بعقائد أناس، لن يتراجعوا عن إيمانات متهتكة ولجت عقولهم ورسخت عميقًا، سوف يقنعها أن يتركا القرية ويغادرانها معا خفية)
الفضاء الأسطوري المقدس
تستدعي الكاتبة شخصيات أسطورية لتصوير الفضاء النفسي والفكري للشخصيات في أثناء سرد المفاصل الدلالية الرئيسة ، وتصوير البنى النفسية والفكرية للأحداث والشخصيات في الرواية ، فتستدعي أسطورة العفريت «سازا بونسم» الذي اعتقدت بعض القبائل الإفريقية أنه يأكل الأطفال حينما يتوهون في الغابات لتصوير الصراع الداخلي الذي انتاب أودينيل قبيل خروجها من المعبد إلى القرية في قولها : (أصبحتُ أتخيّل عفريت الغابات سازا بونسم، سيكون بانتظاري إن خرجتُ، وإن تهتُ في الغابات المحيطة، يأتي ويجهز علي، لن أخرج!).ويختزل تفكير أودينيل وصراعها الداخلي بعدين دلاليين ؛ الأول : مشاعر الحيرة والتردد والخوف من اتخاذ قرار مفصلي مصيري للخلاص من معاناة ، فتتخيل أن خلاصها وقرارها بالتغيير سيؤول إلى معاناة أسوأ ، ولهذا يطول التردد ويزداد الخوف من اتخاذ قرارات التغيير في حياة معظم الناس ، وخاصة القرارات المسبوقة بزمن طويل كما هي حال أودينيل التي قضت ستة عشر عاما في المعبد ، فليس من السهل أن تقرر الخروج منه إلى القرية . والثاني : قدرة الكاتبة على الحفر في جيولوجيا الثقافة الشعبية التي تسبب الصراع الداخلي إذ صورت الكاتبة حالة الصراع الداخلي العنيف الذي انتاب أودينيل بقولها : (غاصت أنامل أودينيل الغضة
عميقا، وصلت حشوة الطين السفلية، انبعثت رائحة الرطوبة، كلما قلّبت الطين غرقت وهواجسها. ظهر، ثم غاب سريعا، طيف علق بين أصابعها الملوثة، بانَ كلما نبشت في التربة الرطبة، طيف مجهول الملامح أخذ الفراغ بين أناملها مسكنا لهُ، واختفى عندما حاولت الإمساك به، كررت النبش ودعته إلى الظهور مجددًا، عبثا انتظرت!) يرمز مشهد الحفر في الطين ورائحة الرطوبة والطيف المجهول والاختفاء والظهور الإرهاصات والبدايات الأول لتشكل الثقافة الشعبية من الأساطير والخرافات ، لهذا جاء قولها: (أصبحتُ أتخيّل عفريت الغابات سازا بونسم……)
تحفل الرواية بطقوس السحر والأجواء العجائبية التي تصور البعد الفكري لبعض الشخصيات ، فحينما وصلت أودينيل إلى بيت (أم هذا) التي (هرعت إلى الطاولة التي توسطت الحجرة، شدّت غطاءها بعنف وأسقطته أرضا مشكلا شكل الهرم، ثم عادت إلى أودينيل وبيدها مقص، قصّت بعض الشعرات من جبهتها الأمامية، وضعتها على قمة الهرم، تساقط الشعر إلى أسفل، ثم طلبت من ياموت مساعدتها بوضع الطاولة على الهرم، حفاظا على خصلات الشعر من الاندثار …. إن حصل وتناثر شعرك واختفى، سأبدلك، وستأخذ مكانك أخرى، وإن بقي مكانه كما هو الآن، دليل على الوفاء والاخلاص، ستقومين أنتِ بالمهمة المقدسة.)
تمثل (حذوة الحصان) في التراث الأسطوري تعويذة لطرد الأذى والأرواح الشريرة ، ولا تزال الحذوة في المعتقدات الشعبية إذ نراها معلقة في المركبات الخاصة ،وفي البيوت أحيانا ،وظهرت الحذوة بمحمولها الثقافي الأسطوري حينما (خرج الثلاثة ( ياموت ، أودينيل ، أم هذا) من شق الباب إلى الحديقة، نظرت المسنة إلى الحدوة المعلقة أعلاه، أطالت النظر وتمتمت بكلام غير مفهوم).
تُسهب الكاتبة في شرح دلالة أسطورة» خرونوس» وتسقطها على الحالة النفسية لـ أودينيل التي تفكر في عالم آخر حينما (عاد إلى ذاكرة أودينيل ما قرأته عن خرونوس، الإله الإغريقي، صانع البدايات،
ومجسد النهايات في عالم آخر لا يشبه العالم الذي تعرفه …. أحبّت الفكرة ورسمت في مخيلتها شكل العالم الذي ستذهب إليه، عالم مختلف لن يدركه أحد غيرها، ربما يكون العالم ذاته).
في الرواية ملامح من تجليات أسطورة عشتار آلهة الحب والحرب ، والخصوبة والدمار ، فعشتار تجسد ثنائيات ضدية في الفكر الأسطوري الكوني ، ففي تجلياتها الإيجابية يسود الحب بين الناس ، وتتجلى مفاتن الطبيعة ، وتبدو مظاهر الكون منسجمة مع حاجات الإنسان ، أما في تجلياتها السلبية فيسود الشر وتندلع الحرب وتبدو الطبيعة غاضبة على الإنسان ، وتناظر ثنائية عشتار حالة القرية التي كانت تسمى ( الروض) (أرض حيّة ومخضبة بالزهور، لم تعرف الصحراء يوما، ولم يجف فيها ماء، ولم ينشف فيها مرعى!) ولكن بعد انهيار الجبل وانشقاق الأرض وغضب الطبيعة (اختفت الطيور، هربت القطعان وهامت على نفسها في البراري، دفنت الغزلان والأرانب تحت الأنقاض، غمرت المياه الحقول، وتحوّلت القرية، كانت تدعى الروض، إلى خراب).

تتحول (المسبحة) من دلالتها المألوفة إلى دلالة سحر وشعوذة في الرواية حينما وضعت (أم هذا) المسبحة حول عنق أودينيل ومنعتها من خلعها آمرة إياها(ممنوع تنزعيها من عنقك، إن حصل ونزعتها، يكون شؤما!)،

وتحرص الساردة على الكشف عن بطلان طقوس المسبحة وما يرافقها من طقوس سحر وشعوذة بقولها :(كانت بالنسبة إلى أودينيل، أعمال سحر غير مفهومة، وألغاز، وادعاءات كاذبة تساعد إلى نشر أهداف غير منطقية).
تنبه الرواية إلى خطورة الطقوس والشعائر الأسطورية في تغيب دور العقل ، والانقياد بلا تفكير لما يريده المتنفذ والمتسلط (سياسيا ودينيا) كما يبدو في وصف الساردة : (آمن الجميع في جملة من المفاهيم الضالة اخترعتها (أم هذا)، دعموها، وساروا خلفها دون تردد، تبنوا فكرة، وتصورات ذهنية مختلقة، دبّرتها العجوز، ساندوها، ووافقوا على قرارات كثيرة غير منطقية اتخذتها) ، وتوحي خطبة (أم هذا) أمام أهل القرية إلى مضامين الخوف والترهيب والقمع الفكري التي يتضمنها الخطاب الديني أو السياسي الذي يسعى إلى الهيمنة على عقول الناس لكي لا يفكروا خارج إطار الخطاب السلطوي ، كما فعلت (أم هذا ) حينما وقفت مخاطبة أهل القرية (…وكما تشاهدون، بدأت تظهر لعنة الروح على العيان، تبنّى الرجال زمام القرار الصعب دون موافقتي، ورحلوا بلا عودة، واستمر الترحال، ولم يبق سوى المسنين، أوعزت اللعنة حكمها القاسي أرحام النساء، قتلت الذكور وأبقت الإناث، ظاهرة خطيرة تؤدي إلى انقراض ولادات الذكور، إبادة جماعية بطيئة، لم ولن أقبل بهذا، وسوف أكابد كثيرا حتى أنقذ ما تبقى، وسوف تفعلون ما أريده دون اعتراض!)
تستحضر الرواية على لسان أودينيل شخصية الإلهة «أورورا» التي ترمز دموعها لفجيعة الإنسان وخيبته وانكساره ، فدموع الشخصية الأسطورية -التي تسبب الندى حالما تطير في السماء باكية أحد أبنائها، الذي كان قد قتل- تناظر بكاء أودينيل التي اختنقت بدموعها حينما ظنت أن الذي أحبتها وضاجعته لم يكن ( هذا) الميت الذي بُعث خرج من ضريحه – كما توهمت- بل كان الراعي في الغابة ، ثم يزداد اختناقها بالدموع حينما وصلت نافذة بيت (بدر) التي أنجبن أنثى خلاف ما كان ينتظره أهل القرية الذين انتظروا طفلا ذكرا يخلصهم من اللعنة المتوهمة.
تقارب خطورة الأساطير المقنعة بالدين التي تعطّل العقل وتفرغ الإنسان من القدرة على التغيير والبناء من خطورة تحول المقدس إلى مدنّس حينما تكتشف أودينيل أن شخصية (هذا) المقدسة الذي أحبته وحملت منه هو نفسه الذي اغتصب صديقتها ( ميرثا) التي عادت من القرية إلى المعبد لكي تكفر عن خطيئتها .ويكشف تاموت الابن حقيقة (هذا) المزيفة فقد (كان (هذا) ترب طفولة امتاز الغطرسة والاستعلاء، والعدوانية، والأنانية… وتمنى في أعماقه، لو يستطيع تحطيم مزاره المشيّد كذبًا وتعظيمًا!
)
تقنيات أسلوبية
تلجأ الكاتبة إلى أسلوب الإيحاء والإشارة المقتضبة لأحداث قادمة لتحقيق الدهشة والتشويق وبناء أفق توقع قادم ، وتكتفي بما يشبه اللقطة السينمائية المبهمة في بدايتها والمحرضة على متابعة الحدث، نحو رغبة أودينيل بالبحث عن والديها اللذين لا تعرف عنها شيئا ولم ترهما في حياتها ، فتكتفي السادرة على لسان أودينيل بالقول : (أليس الآباء ملجأ لأبنائهم، يمنحون الأمان، والانتماء، والعيش الرغيد، والسعادة لهم، سوف يأتي)؟ ولا يتجلى البحث عن والديها إلا في نهاية الرواية دون أن تجدهما ؛ لأن نهاية الرواية مفتوحة للتأويل والتوقع. وينتهي عدد من مشاهد الرواية بالإيحاء والإشارة المقتضبة لأحداث قادمة. ويعد هذا الأسلوب السردي من تقنيات بناء الحبكة الروائية. وكذلك يؤسس المونولوج الداخلي لحبكة الرواية في قول راعي شؤون القرية عن أم هذا :(امرأة قاسية، استبدت وتحكّمت بعد أن ضاع منها ابنها، لنرى ماذا يخبئ لنا المستقبل القريب).
توظف الكاتبة لغة الجسد في المواقف الأكثر إثارة لتصوير البنية النفسية للشخصية، ولا يخفى أن لغة الجسد تعبر وتصف عما تعجز عنه اللغة المألوفة ، لأن المشاعر الإنسانية تبدأ بتغيرات فسيولوجية ، ثم تتحول إلى تعبيرات لغوية تحاول تصوير ما يشعر به الإنسان ولكن اللغة تبقى عاجزة عن تصوير التفاصيل الدقيقة فتأتي لغة الجسد خطاب تعبيريا تعويضيا عما عجزت عنه اللغة المألوفة. ومن المشاهد التي تجلت فيها لغة الجسد وصف حالة أودينيل حينما رأت الرجل القادم من القرية (وقف الرجل برهة مصغيا إلى الصمت الذي لفّ الأجواء، قطبت أساريرهُ وتوسعت بؤبؤ عينيه، نظر إلى أودينيل بإعجاب وأخذ يتأملها، ابتسم لها برقة وحنان، وبحركة ترحيبية انحنى له)، وأفضت دلالات لغة الجسد في هيئة الرجل القادم وقسمات وجهه وانحنائه مرحبا بها إلى شعور بالراحة والسكينة، فتوهمت أن القادم من القرية إلى المعبد هو والدها حينما (أحست بوخزة ساخنة نخرت صدرها، ناجى عقلها الصغير وسواس هجس بالها، كادت تصاب بدوار) ، ثم تكتشف أن القادم من القرية راعي شؤون أهل القرية (ياموت ) جاء إلى مديرة المعبد ليؤخذها إلى القرية. فالتوهم الناجم عن لغة الجسد
يكشف عن مخزون نفسي لدى أودينيل التي لم تكف عن التفكير بوالديها. وحينما وصلت أودينيل إلى بيت (أم هذا) الذي يجسد منظره الخارجي والداخلي البنية النفسية والسيكولوجية لصاحبة البيت شعرت بالقلق والخوف والاضطراب،(وقفت الفتاة في الوسط صامتة، تلبّك حالها وارتعشت خوفا، خلجت، واضطربت، وازدادت دهشة، رسخ، وتعمق الخوف داخلها، رشح جلدها وعرق رغم الجو البارد، كان اللقاء مع المرأة استثنائيا وشاذا).