رغيد النحّاس_ سدني
عمر الصبيّ سبع سنوات.
يراقب بمحبّة جدّته التي تقيم عندهم في زيارة لبضعة أيّام. ها هي هذه تلتف بثياب صلاتها القطنيّة البيضاء وتؤدي فريضة المغرب على أرض غرفة جلوس، وهو يروح ويأتي بين غرف الشقّة الواسعة، ينتظر بحماس انتهاءها لتقوم بإضفاء لمساتها على وجبة العشاء التي بدأت والدته والخادمة تحضيرها في المطبخ. مثل كلّ الجدّات في دمشق، «جدّته أعظم طاهية في العالم».
غرفة الجلوس تلك تتصل بغرفة أصغر يستخدمها الصغار للدراسة والألعاب. يواظب الصبيّ على الانتقال من غرفة الجلوس إلى الغرفة الصغيرة لإشغال نفسه إذ بدأ الجوع يتمكّن منه. هناك يجلس أخاه الأصغر يتلهّى بالمكعّبات الخشبيّة ليفكّ الأحجية ويشكّل صورة. يجلس إلى جانب أخيه، وما إن يحمل مكعّبًا من المكعّبات حتى يسمع نوعًا من الهدير، ويرى جدران الغرفة الزرقاء تميد من جهة إلى الأخرى. إلى أيّ مدى، وكم استغرق ذلك ليس مهمًّا أمام تلك الصدمة اللحظيّة التي هزّته في أعماقه هزًّا. لم يشهد ذلك من قبل، وليس لديه أيّ تفسير. بدأ أخاه الأصغر بالبكاء العنيف. يخاف أكثر، ويواصل بكاءه الصارخ وهو يسرع إلى أحضان جدّته التي تجلس الآن على أرض الغرفة تتضرّع إلى الله أن يغمرهم برحمته، وهي تضمّ حفيدها الأثير. تسرع والدته خارج المطبخ باتجاه شقيقه المضطرب، وتتوجّه الخادمة نحو الرضيع الغافي في غرفة للنوم.
في جنّة جدّته، يشمّ رائحة ثياب الصلاة التي تحمل الكثير من عبق الخزانات الخشبيّة القديمة، الممتزجة مع روائح الجسد الأخرى. تواصل الجدّة تلاوة ما تحفظ من القرآن، خصوصًا تلك الآيات التي يتعارف أنّها تبعد الشيطان ومخاطره. وبين آية وأخرى تمطر وجنات حفيدها بوابل من القبل، فما إن يترطّب وجهه حتّى يمسحه بثيابها الناعمة. يشعر بالأمان. ويستمع إلى تفاسير البالغين، وتقع في أذنه عبارة «هزة أرضيّة» لأوّل مرّة.
عندما يصل والده لاحقًا، يستقبله الصبيّ بمزيد من البكاء، ولكنّه الآن بكاء أقرب إلى «التشكّي».
هذا المساء محفور في ذاكرة الصبيّ بوضوح سرمديّ. ولكن لا يمكن التأكيد إلى أيّ مدى صار جزءًا من عواطفه وقلقه. سيسمع بعد سنين قليلة بزلزال أغادير عام 1960. وسيعلم ما تعنيه الكلمة، ولكن ليس بالضرورة يفهم كلّ مدلولاتها.
من الطبيعيّ الآن، وهو يعلم كلّ المدلولات، أن يستذكر الحادثة حين سمع بزلزال مروّع ضرب سوريا وتركيا. يتساءل كيف سيشعر الأطفال ذوو السنوات السبع وهم يشهدون تطوّر هذه الكارثة حتّى انتهاء أجلهم قبل الأوان، دون أن يعلموا لماذا!