بقلم: دينا سليم حنحن – كوينزلاند
العطاء سعادة تنبع من القلوب الكريمة، والإنسان الحقيقي هو الذي يدرك تمام الإدراك معنى وأهمية العطاء.
تواصل معي قبل فترة ابن العم د. جوزيف حنحن من أرض العم سام، واقترح اقتراحا هاما، بدى لي من أوّل وهلة، إنه مستحيل، لكنه استطاع أن يقنعني. طالما الهدف ساميا يكون الطريق سالكا نحو النجاح. قال لي:
– أتكلُ عليكِ في تحقيق أمنيتي، وهي واحدة من أمنياتي الكثيرة.
– وما هي أمنيتكَ؟ سألتهُ بفضول.
– أن أُسعد الآخرين، خاصة الأطفال، لم أرزق بأطفال، لكني أعتبر جميع أطفال العالم أبنائي.أجابني.
وكانت البداية.
بدأت مسيرتنا، في بناء سلسلة مشاريع ثقافية، برعايته، مشاركة مع الأطفال واليافعين في بريزبن، مشروع «أطفال يكتبون يومياتهم»، كانت البداية صعبة، لأننا لم نجد أطفال يكتبون باللغة العربية، والهدف «هو عدم نسيان لغة الأم حتى لا تضيع الهوية» كما قال جوزيف، لكن تغاضينا عن الموضوع وبدأنا المشروع باللغة الإنجليزية، فهذا ما يوجد بين أيادينا للأسف الشديد، أطفالنا في أستراليا تضيع منهم لغة الأم! لكن بقي هاجس فكرة الحفاظ على هويتنا، وهوية أطفالنا جيل المستقبل هو الهاجس الأكبر.
قررنا التواصل مع أرض الأجداد، فلسطين ومشاركة الأطفال هناك في مشاريعنا باللغتين، العربية والإنجليزية، هناك مشروع جديد بدأنا في ترتيبه، تبادل رسائل صداقة نصية، خطية، بين اليافعين في العالم، المشاركة وتبادل الهموم، الكتابة بخط اليد، أو رسائل مطبوعة باللغتين، وجمع طوابع البريد، رسائل ورقية تعيد الطالب إلى عصر فات من التواصل الاجتماعي، والهدف هو محاولة الاستغناء عن الميديا والتخلص من روتينها، شيء من التغيير، أو لنقل إعادة أمجاد الصداقات الصادقة، والتعرف كل على الآخر دون تدخل الكتروني، والتدرب على اللغات.
مشروع آخر، إعداد وإنتاج حلقات إذاعية تبث أسبوعيا من الاذاعة الثقافية في بريزبن، عنوان البرنامج (شموس)، يستفيد منه الكبار أيضا لاحتوائه على معلومات عامة باللغتين، ننقل من خلاله إرشادات حياتية هامة ومفيدة، حوارات مع المنتسبين، وأدباء أستراليين يختصون بأدب الطفولة، يقرأ كل أديب قصة بصوته، يقدم البرامج الشبيبة المدربون، قراءات ومقالات تمس الحياة الاجتماعية للطلاب، وما يمر عليهم من تغييرات هامة في الحياة الاجتماعية، جميع المحتويات من إعداد وتقديم الطلاب المشاركين، ويبلغ عددهم الآن خمسون طالبا، والمجال مفتوح لمشاركة المزيد.
بداية، استلم المشاركون مبلغ تعزيزي من المال وهدية بسيطة للذكرى، وبدأ العمل، دوّن الطلاب يومياتهم بالشروط التي وضعت، (عدد الكلمات، تاريخ التقديم، العمر، مكان الإقامة) عندما قرأنا النصوص، أحسسنا أن الموضوع سيكبر، فليس من المعقول عدم الاستمرار في طريق بدأناه، وبعد المشاورة والتشاور، قررنا الاستمرار مع الطلاب الذين تميزوا في العطاء، افتتحنا مشروع «مذيعون صغار»، وبدأ التدريب في مقر الإذاعة التي أعمل بها، وحصل المشاركون على شهادات تخرّج معتمدة من إدارة الإذاعة، وشهادات تقدير من مؤسسة حنحن باسم الدكتور جوزيف، راعي المشاريع.
طلب مني د. جوزيف توسيع نطاق العمل، توسعنا ووصلنا حتى سيدني وملبورن، وسوريا وفلسطين، زيادة إلى المشاريع المقامة في جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية.
أفكار كثيرة قيد التنفيذ، وتزيد طلبات الانتساب، توصلنا إلى تسجيلات على الواتس آب من داخل سوريا وفلسطين، طلاب موهوبون، يؤلفون القصص، يعزفون، يغنون، يشاركوننا في مواهبهم، أظن أننا وطئنا أول سلم النجاح، ويستمر البرنامج الإذاعي لسنوات مقبلة، ويبث على التقنية الرقمية.
الدكتور جوزيف من مواليد القاهرة، هاجر والدة إلى أرض الكنانة من فلسطين بداية القرن العشرين، بعد الحرب الأولى، بحثا عن وطن آمن، وأرض يستقر فيها، يزاول أعماله في تنمية مشاريعه الكثيرة، قام بتأسيس مصانع للنسيج في منطقة تسمى العياط القاهرة، لكن شاءت الظروف، وتغير الحكم في مصر، عُزل الملك فاروق من منصبه، وبدأ تقسيم الأراضي وأملاك الأثرياء، وحصلت حرب اليمن، وبدأت العائلة تفقد أهم ميزاتها المعنوية، لذلك قررت النزوح إلى أمريكا، ومن هناك بدأ التواصل مع الجذور في فلسطين.
ولأن ميزة العطاء وانتشار الخير طبع لا يتغير، قمنا بافتتاح مشروع آخر للكبار، «منتدى الكتاب»، مشروع يلزمه التفرغ، والعطاء المثمر، والمتابعة، وعقد الاجتماعات الشهرية في قاعة خاصة بنا، كتابة وقراءة النصوص المقدمة، والخ من الجهد الكبير، عدى اتخاذ القرارات في منح جوائز مالية لمسابقات تقدم فيها أقوى الدراسات النقدية في الكتب المقروءة، الخ من المشاغل والترتيبات التي أقوم بها شخصيا. وممكن القول أننا نجحنا في هذا الشمروع للكبار أيضا، ومستمرون به لأجل غير مسمى.
حاليا ولسنوات قادمة نقوم في بث برامج «شموس» في الإذاعة، برعاية د. جوزيف الذي يغطي جميع النفقات، رسوم تدريب، استئجار ستوديوهات، شراء وسائل تقنية مختلفة، شراء أغاني باللغتين، ومصاريف كثيرة أخرى.
شارك الشباب في إعداد وتقديم البرامج إزاء مبلغ من المال، في السنة القادمة، سوف تنقل مساهمات لأطفال ويافعين من مدارس ومعاهد موسيقية من داخل فلسطين، قمنا بالترتيب على العمل وتغطية الأحداث، وتسجيل أعمال الموهوبين.
العمل في مثل هذه المشاريع متعب، وشاق، ويلزمه الكثير من التركيز، والهندسة الفنية الإذاعية، والتي أقوم فيها بنفسي أيضا، عدا عن اختيار المواضيع التربوية لتكون من محتويات البرامج.
كنت قد التقيت د. جوزيف في سان فرنسيسكو أمريكا سنة 2014، تابع مشاريعي الأدبية وشجعني على الاستمرار، أما هو، فقد كان الرجل الذي بدأ في لمّ شتات العائلة، عائلتنا التي توزّعت في بلدان العالم، رجل مهتم، ومهموم، ومكترث، ما لم نعد نجده كثيرا في هذا العصر، له باع كبير في مواضيع اجتماعية، وعائلية، وعلمية كثيرة، قدم أبحاثه الكثيرة في شؤون علمية وثقافية، وما يزال يكتب، ويقرأ، ويتابع.
أجمل طريقة وجدها للتنفيس عن ذاته الثرية، العطاء، وكما قيل « القمح والعمل صالحان لا ينبتان إلا في أرضٍ طيبة» ومن نعمل معهم هم الأرض الطيبة، يساهمون في تحقيق طموح رجل يتحدى المسافات، والظروف، والعوائق الكثيرة، يكرّس أمواله، وحياته للأعمال التربوية والثقافية، يمنح من ماله الخاص إلى أناس لا يعرفهم، ولم يلتق بهم، لكنه يثق بأن العطاء السخي سوف يثمر دائما، فكلما غمرت المياه الأرض الطيبة سوف تطرح خيرا وبركة، فمن اعتاد على عمل الخير لا توقفه الظروف الصعبة.
هنيئا لنا بكَ ابن العم جوزيف حنحن، لقد تركت انطباعا وأثرا كبيرا يتحدث عنه الناس، دام العطاء ودمتَ لنا سالما.
دينا سليم حنحن
راعي مشاريع حنحن في أستراليا وفلسطين
مدير مجموعة اللغة الآرامية في راديو فور إي بي – بريزبن أستراليا.