أنطوان القزي

بلغتُ مرحلة النضوج متسلّحاً بفكر وسيرة الإمام الصدر وسعيِه الى مجتمع متناغم ووطن يحضن كلّ أبنائه، وكلّما تقدّم زمن غيابه وتغييه (31 أغسطس آب 1978) أشعر أكثر بحاجة لبنان إليه، أنا الذي وعَيت على كلامه واستمعتُ اليه يوم حضر الى بلدتي الجية سنة ( 1972) وألقى محاضرة في دير مار شربل للرهبانية اللبنانية ما زالت بعض عباراتها راسخة في بالي رغم أني كنتُ في الرابعة عشرة من عمري ولا أزال حتى اليوم أردّد أمام الأصدقاء جملة من تلك المحاضرة تقول:» كما الماء يحتاج الى اوكسيجين وهيدروجين ليتكوّن، كذلك لبنان يحتاج الى بمسيحييه ومسلميه ليعيش وبغير أحد الطرَفين ينتفي وجوده» .
ربما رسخت في ذهني هذه المعادلة الكيميائية لأني كنت يومها في الصف الثاني تكميلي حيث نبدأ دراسة الكيمياء.
في تلك السنة وما تلاها، كانت ظاهرة الإمام الصدر تستقطب المزيد من اللبنانيين الذين باتوا يقصدون الإستماع إاليه في الأديرة والكنائس كما في المساجد والحيسنيات.
في غياب الإمام الصدر ، لم يعد لبنان بمسلميه ومسيحييه، بل بالطارئين عليه بأفكار لا تشبه أفكار الإمام الصدر، وبأناس أدمنوا الخصام والتخوين والشيَع والملل الضاربة في أرضه من أقصاه الى أقصاه. ولم يعد الماء في لبنان من أوكسيجين وهيدروجين ، بل من ينابيع ملوّثة وأنهار موبوءة.
ولعل أبلغ كلام وأدق وصف يليق بذكرى تغييب الإمام موسى الصدر،هو ما كتبه أمس الأول وزير الشباب والرياضة في لبنان جورج كلّاس ومما قاله:» كان الامام الصدر رجل إيمان لكل إنسان طيب ابن أخلاقه، وليس هو رجل دين لجماعة لبنانية دون غيرها، رغم ما له من مؤيّدين ومريدين ومقلدين وأتباع عند الشيعة. وهذه أبرزُ علاماته الروحية والعلائقية المائزة التي جعلته إماماً مقدّراً ومحبوباً وداعية سلام ووئام وملهماً للعقول على الخير، وركيزة قيادية استقطابية التقى على احترامها المسيحيون والمسلمون، لأنهم وجدوا في شخصيته الهدوء الفكري والروية الكلامية التي تتنخل الألفاظ وتختار المصطلحات وتنتقي المعاني باحترافية العارف بأسرارية معاني المفردات ودلالات الكلام وفلسفة توظيف كل كلمة في المطرح المناسب.
وأصعب ما كان يعترض عمليات الإنقاذ والإغاثة والحماية التي نذر نفسه للقيام بها ميدانياً في زمن الحرب على لبنان، هو التشظي الدائم للأحداث وسعيه لإخماد الفتنة الطائفية بكل أشكالها وفنونها ومندرجتاها، في بيئة هشّة متنوّعة التكوين المجتمعي والديني والعقيدي وواسعة التوزع ديموغرافياً.
في هذه الظروف الاستثنائية، تحفز ثقافة سماحته الموسوعية، لأن نتبصر بالحال التي نقاسيها ونفكر في البحث عن كوة جدارية يدخل منها النور عمق النفق المظلم والوضع الظالم الذي نكابده، والذي لم نعد نقوى على التعايش معه إلّا بالصلاة والصوم ولوْ تعذّر علينا الإفطار على غير فُتاتِ خبزنا الأسود، ولا نجد غير الأفكار السلامية والنورانية نتقوّى بها للتحصّن ومواجهة الإحباطات المتناسلة التي أمست أكثر عدوى وأشد وباءً من داء العصر المبيد.
عندما طرح الإمام موسى الصدر مجموعة مفاهيم ومصطلحات أسهمت بصناعة مخارج معقولة للأزمة-الفتنة التي ضربت لبنان في سبعينيات القرن الماضي، واجتهد لوضع حلول للتقارب والتفاهم والتوحّد بين اللبنانيين، كان يدرك بعلميته واجتهاديّاته الإيمانية وتحليلاته العقلية والرؤيوية، أن النموذجية اللبنانية تستلزم عناية استثنائية ورعاية مركزة من المجتمع الدولي الواسع والمجتع الإقليمي الأقرب والمجتمع اللبناني الضيّق، نظراً للرهان المأمول من نجاح هذا النموذج العيشي بين الطوائف والمذاهب، يقابله خطر إفشال قصدي لهذه الحالة الحوارية والعيشية لصالح التفكيك والتفتيت وفتح الأمور على أخطار مهدّدة للكيان والصورة والرسالة».
.. وبعد، يبقى الإمام الصدر اليوم حاجة لمريديه، كما لكل اللبنانيين.