بقلم العميد.م. وجيه رافع

قبل الشروع بدراسة الازمات الدولية الحالية، لا بد من إجراء قراءة موضوعية لما آلت اليه الفلسفة الليبرالية على المستويين الفكري والاقتصادي، لأن هذه القراءة تشكل مدخلاً اساسياً لفهم وتحليل الاسباب التي أدت الى لا عدالة النظام العالمي الحالي، وتخبط المجتمع الدولي بهذا الكم من الازمات الدولية.

إن التشققات العميقة التي أصابت بنية الفكرة الليبرالية، أدت إلى ظهور نتائج معاكسة تماماً لتلك التي قامت على اساسها، اذ ان هذه الفكرة  التي شكلت منذ بداية الحرب الباردة، سحراً عالمياً جذاباً، قامت ركائزها على الحريات العامة وحقوق الانسان وصون الكرامات الانسانية، وصولاً الى رفاهية المجتمعات التي تتكون منها، وذلك وفقاً لآليات مجتمعية ديمقراطية،والذي كان لسحرها هذا اثر كبير في تسارع خطوات انهيار  الاتحاد السوفياتي، تلك الفكرة الساحرة لم تعد تعمل كنسقٍ قادرٍ على صناعة تلك التحولات او الاهداف المرجوة منها، لا بل ظهرت متعاكسة لجوهر الفكرة التي وُلدت منها ولتصبح في النهاية،أسيرة نفسها، وأسيرة الافكار التي حاربتها بنفسها لفترة طويلة من الزمن.

كيف ذلك؟

يعيش عالم اليوم امام لوحة باطنية عميقة، فالليبرالية التي قضت على الفكرة الفاشية داخل القوميات الاممية التي آمنت بوضع المجموع في خدمة الفرد- الزعيم- القائد والمُلهم الذي يمثل في شخصه قيم الامة وروحها ومستقبلها، أضحت اليوم تقضي بوضع مجموع المجاميع في خدمة الجامع الاقوى داخل الامم الفوق- قومية، وبالتالي اذا ما تعمقنا جيداً في جذور فلسفة هذه الليبرالية وفي قراءة تحولاتها، نجد ان فكرتها الجذابة قد دارت على نفسها دورة كاملة،  وتعارضت مع ارادتها الجوهرية، فلم يعد الزعيم شخصاً طبيعياً كما في النظم الفاشية يُعبد ويُؤله،بل اضحى الزعيم هنا، ومع هذه التحولات ،كياناً معنوياً خفياً، يُرعِب ويُهدِد، ويرتبط بقواعد راسمالية احتكارية جشعة،اساسها الاستحواذ على الثروات والسيطرة على  مقدرات الشعوب،وذلك من خلال علاقات بينية غير اخلاقية،جوهرها ثنائي القوة والثروة،واعمدتها ثنائي صنّاع الاسلحة والمتحكمين بالاسوق المالية، ففي الوقت التي ترادفت القوة والثروة مع الجشع والاستباحة، واضحت الثروات العالمية في قبضة الاقوى والاغنى، تضّادت الليبرالية مع منطلقاتها الانسانية والاخلاقية، ودخلت اتجاهاً معاكساً للقيم التي آمنت بها واقامت في اساساتها.

هذا من الناحية الفكرية، اما من الناحية الاقتصادية فليس من الصعب قراءة التحولات التي اصابت الفلسفة الاقتصادية الليبرالية وجسّدتها كآلية تسير في عكس سيرها الطبيعي، إذ ان الاسواق الاقتصادية الليبرالية والتي قامت اساساً على اقتصاد السوق التلقائي وعلى قاعدة العرض والطلب، تحولت الى ساحات نزال اقتصادية، تتلاعب فيها الايدي الخفية من هنا وهناك،وتتنازع على مصائرها القوى العالمية دون اقامة اي اعتبار لحقوق الشعوب ومصالحهم في الدول الفقيرة والضعيفة، فدخلت تلقائيتها الاقتصادية هذه،في ديناميات لعبة الهيمنة واصبحت اسيرة لترتيبات معلبة مسبقاً، تؤّمن مصالح الدول الميهمنة وصنّاع القرار فيها،وكذلك مصالح الحكام فقط في الدول النامية والفقيرة.

وللمفارقة، فان تلك التنازعات لم تتوقف على اسواق الفقراء فقط، بل اصبحت رحاها تدور بين اسواق الدول الليبرالية الغنية نفسها،ينتصر فيها الاقوى المسيطر على خفايا واعماق المؤسسات الدولية التي وُجدت اصلاً لتلعب دور الحكم في التنازعات الدولية، وما هيمنة الولايات المتحدة على منظمة التجارة العالمية منذ تأسيسها الى اليوم،بعد الغاء اتفاقية الغات( ربحت اميركا في هذه المنظمة كافة  النزاعات الاقتصادية التي قامت بينها وبين بعض الدول الاوروبية) الا خير دليل على ذلك. وهكذا، وكنتيجة موضوعية لدقائق هذه التحولات،يمكننا القول ان العولمة الاقتصادية الكبرى،المولودة من العقل الليبرالي الحر ،والذي بدوره خرج،اقتصادياً،من رحم الحمائية الاقتصادية الصغرى، عادت لتصبح هي نفسها صغرى في خدمة الحمائية الام الكبرى،فمن عكس تلك المفاهيم، التي جعلت الفكرة السحرية الجذابة تدور على نفسها لتطعن نفسها وبالسكين التي اخترعته بنفسها.

الجواب الطبيعي،

انها النخبة «العسكرومالية» الخفية الحاكمة والمتحكمة، واللاعبة بقوة في صناعة قادة عالم اليوم وحكامه، وذلك عبر «حرب» خفية دارت لعقدين من الزمن بين مصالح النخبة المذكورة اعلاه وبين الارادة العقلانية للفلسفة الليبرالية، تمكنت فيها هذه النخبة من هزيمة العقلانيين وابعادهم عن مواقع صناعة القرار في كثير من دول العالم.

سنحاول في الاسبوع القادم طرح  جدلية هذه الحرب الخفية، لننطلق بعدها الى الغوص في الازمات والتوترات الدولية الدائرة حالياً، وصولاً الى الاجابة عن التساؤل الذهبي الكبير: هل اصبح العالم على مشارف حرب كونية ثالثة.