العميد.م. وجيه رافع

 

منذ انتشار فيروس كورونا في أرجاء العالم، إنصرف منظّرو العلاقات الدولية والعديد من القادة الدوليين، الى التأكيد ان ما بعد كورونا ليس كما قبله ،وان هذا الفيروس سيغير طبيعة العلاقات الدولية، وذهب البعض الى التأكيد ان منطقة النفوذ والتأثير في العالم  ستنتقل من الغرب الى الشرق، وأشار آخرون الى حتمية دخول العالم في متغيرات مصيرية على كافة المستويات، وتجددت  المخاوف حول اعادة احياء الفكرة القومية لدى العديد من الشعوب،وعن مصير الاتحاد الأوروبي، اما التساءل الأبرز كان حول قدرة  الولايات المتحدة على الاحتفاظ بقيادة العالم بعد هذا الفيروس المتوحش.

بالإضافة الى ذلك ،كثُرت الروايات التي تتحدث عن مؤامرة دولية كبيرة ورّطت شعوب المعمورة في هذا الفيروس القاتل، وتحدث البعض عن إغلاق مواقع ومراكز أبحاث جرثومية  مختلفة هنا وهناك ،وتراشقت كل من الولايات المتحدة والصين الإتهامات والمسؤوليات  المتبادلة في هذا الاطار.

بغض النظر عن كل ما تقدم، من المؤكد ان  العالم دخل في مرحلة حذرة وخطيرة من جراء هذا الفيروس  الخطير ،ابتداءً من التداعيات الاقتصادية الكبيرة التي ستترتب على الاقتصاد العالمي من حيث تأثيره الكبير على النشاط الإنتاجي ودخول العالم في ركود اقتصادي كبير على كافة المستويات،وكذلك وقوع كافة الدول في إرباك خانق في كافة المناطق الاقتصادية الدولية، وتدهور الاوضاع الاجتماعية لسكان الدول المتطورة، دون ان نغفل طبعاً النتائج الكارثية لتدهور الاسواق المالية وتوقف عجلة التنمية وتدهور مريع في اسعار النفط بالاضافة الى الخسائر الفادحة لقطاع الطيران والنقل  حول العالم.

لكن الواقعية السياسية تحتّم على الجميع إجراء قراءة هادئة متأنية، تضع نقاط الحقائق، على حروف وأبجديات العلاقات الدولية، فهذا الفيروس، وبالرغم من تداعياته المهمة، لن يكون السبب الرئيسي المباشر للولوج في نظام عالمي جديد ،إذ انه لا يمكن تجاهل الوقائع التاريخية ،لان سياقات العلاقات الدولية هي سياقات  دائمة التغيير، فمنذ انطلاق ورشة العولمة في بداية تسعينيات القرن الماضي من قبل الولايات المتحدة ومحاولتها قيادة عالم أحادي القطبية، تنّبأ حينها العديد من الباحثين والمفكرين الى صعوبة المسار الأحادي للولايات المتحدة، بالرغم من التصورات التي قدمتها اليلتسينية الروسية التائهة لواقع الاتحاد الروسي في ذلك الوقت،وكذلك بالرغم من حداثة المشروع الاصلاحي الصيني الكبير الذي كان في بداياته حينها،والذي سخر منه كبار رواد  الليبرالية في العالم ،وذلك عندما اطلق الرئيس الصيني الراحل دينغ كلمته الشهيرة في العام ١٩٧٨،حيث قال إن للرأسمالية حسناتها ، ودعا الى استثمارها والاستفادة منها، واطلق العنان لدقائق هذا  المشروع، الذي قُدِّر له في ذلك الوقت خمسون عاماً تنتهي في نهاية العقد القادم وذلك لكي تتمكن الصين من تبوء موقع ونفوذ كبيرين  في الخارطة الجيوبولوتيكية الدولية.

وعلى هذا الاساس ،وبعد العديد من المتغيرات الكبرى على مختلف المسارح الدولية ،اضحى النظام العالمي القائم حالياً ،يعاني من فجوات وثغرات وتعثرات مختلفة على كافة المستويات ،وتحولت التوترات الدولية ازمات مفتوحة قائمة ومستمرة على الدوام، وذلك رغماً عن كورونا، واصبح الجميع على يقين ان المجتمع الدولي لا بد له من الوصول الى معادلة دولية جديدة، خاصةً بعد  ان اصبحت الحروب الدولية عملية انتحار جماعي لا مفر منه على الاطلاق.

سنحاول في الاسبوع القادم ،إجراء مقاربة بحثية مقتضبة وعميقة عن واقع المشروعين الكبيرين للولايات المتحدة والصين منذ انطلاقهما من حوالي اربعين سنة ومسارهما سوياً في مشروعين متقابلين ، وحول مكمن النجاحات والتعثر لكل منهما، بالاضافة الى وضع تصور  معين لمستقبل العلاقات بين القوى الدولية في العقود القادمة.