بقلم / كمال براكس
منظمة العلاقات الدولية تتحّكم بها عدة عوامل , منها عامل العولمة الذي يراد منه المزيد من الأنفتاح والتلاقح والتفاعل والتحاور بلا حدود, في ميادين السياسة والأقتصاد والثقافة والأجتماع , وفي منظور حضاري عام , لا شك في ان العولمة تعني , انتشار القيم والمفاعيل ,والعواقب التي نجمت عن الثورات التقنية والصناعية والأقتصادية وما رافقها من تحولات فكرية في الثقافة الأوروبية والغربية .
والعولمة تعني الثقافة الأنسانية العصرية أو الحداثة, وهما انتاج انساني شاركت فيه أمم العالم قاطبة , وخاصة الحضارة الأوروبية والعربية والأسلامية .فمنذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي الى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي , تميّزت هذه المرحلة بظهور اكتشافات كبرى منها اكتشاف القارة الأميركية , كما تقّدم دور العقل وتراجع دور الدين.اما على الصعيدالسياسي فقد اتّسمت هذه المرحلة بظهور الكيانات «القومية»المحددة جغرافيا» , وتراجع الأمبراطوريات , وتعتبر معاهدة « بتغاليا» المبرمة في عام 1648 التي انهت حرب الثلاثين عاما» بين الأمبراطورية الجرمانية من جهة والسويد وفرنسا من جهة اخرىواطلقت الحرية الدينيةلأمارات المانيا الشمالية , مؤسسة لكيان الدولة القومية.
وهناك بالطبع غلبة النمط الأقتصادي الرأسمالي في الثورة الصناعية , وما أدى اليه من بروز للفردية وتفكك في عرى العلاقات العلاقات الريفية , وتقدم ظاهرة الحياة في المدينة وما جرّته من فقر وبؤس.ومما تجدر الأشارة اليه, ان حركة التجارة في هذه المرحلة , انحسرت في حوض البحر المتوسط ,وازدهرت في المحيطات ,خصوصا» حركة التجارة بين سواحل المحيط الأطلسي , وافتتاح خط المحيط الهادئبين الولايات المتحدة واليابان على على سبيل المثال (منذ1853 ولغاية 1867)وفي النصف الأخير من القرن التاسع عشر , ازداد حجم التجارة في العالم واشتّد التنافس بين الأمم التجارية .
وفي خلال النصف الأول من القرن العشرين , وتحديدا»ما بين الحربين العالميتين (1914ولغاية 1945)سّجل في هذه المرحلة , انحسار في النفوذ الأوروبي الأستراتيجي والتجاري , وعرف النظام الأقتصادي الرأسمالي اول ازمة خانقة له ,اي انهيار الأسواق المالية في «وولستريت»بنيويورك عام 1929.
كما عرف المسار الدولي منحنيين متناقضين :الأول ضمور في العلاقات التجارية , وثانياً هيمنة سياسية عسكرية تجّلت في حركات الأستيطان والأستعمار.وفضلاً عن ذلك فقد فشل الغرب عموماً في الحفاظ على وهج حضارته وتألقها , كما ظهر في الثورة الفرنسية عام 1789 مع ما حملته من قيم (الحرية المساواة والأخوة )وايضا» في شرعة حقوق الفرد والمواطن , وفي التقاليد الديموقراطية البريطانية , فكانت الحرب العالمية الثانية , وما جرّته من ويلات ومجازر بسبب استنفار القوميات العنصرية.
وخرجت اوروبا منهارة ومتراجعة امام بروز الولايات المتحدة , فاذا بها السبّاقة الى بناء نظام عالمي جديد من أ ركانه منظّمة الأمم المتحدة , والنظام العالمي المعروف بأسم «بريتون وودز»فتحوّلت الأنسانية الى مسار التوحيد والتنسيق والتفاعل .كما دفعت الولايات المتحدة الى تأسيس تحالفات ومنّظمات بأتجاه المزيد من «عولمة» الأقتصاد والعلاقات الدولية شرعة الدفاع عن دول «حلف شمال الأطلسي»عام 1941.وبالرغم من ان العولمة باتت مسارا» بل مصيرا» للأنسانية , فان الخلل ما زال يتحّكم بها من ناحية غلبة دول الشمال الصناعي المتقّدم , حيث تقوم دول (اميركا واوروبا واليابان)بالسيطرة على اكثر من 70%من حركة المال في العالم.وبالغم من ان الغنى والوفرة هما من معالم الأقتصاد الراهن , فان الفجوة بين اغنياء العالم وفقرائه تزداد..
وفي تحقيق لظاهرة العولمة , يلاحظ هنا انها تجاوزت ظاهرة «التبادل التجاري»المحصور في الخدمات والسلع , لتصبح قاعدة لنموذج جديد من العلاقات الثقافية والبناء الأقتصادي , بل في الأداء السياسي نفسه.والعولمة كظاهرة تعني التنامي المتزايد والمتشابك في التبادل التجاري , وانسياب الرساميل وبيع التقنيات وانتقالها , وتبادل المعارف على نحويجعل المجتمعات أكثر تداخلا»وترابطا»بعضها ببعض..والعولمة ايضا»هي مدى انخراط مجتمع ما اوثقافة ما في الأقتصاد الدولي .وهي ايضا»مدى قدرة مؤسسة ما او قطاع اقتصادي او ثقافي على المنافسة واحتلال موقع له في مجتمع آخر اكثر او اقل تطورا» او غنى او ثروة , وهي ايضا» تحديد قدرات او امكانات ادارات لأستغلال الموارد والمصادر والمصارف خارج حدود الكيان السياسي او المدى الجغرافي الذي نشأت فيه ولفرض معايير عالمية .ويمكن القول ان العولمة تأسيس لنمط جديد من النمو والتطور يقوم على عدة اركان ومفاهيم ومن اهمها :تحرير التبادل التجاري خدمات وسلعا» , اسقاط القيود القانونية امام حركة الرساميل , اسقاط الحواجز امام انتقال المستحدثات القانونية , التنافس الأقتصادي , التلاقح الفكري والتكاشف الثقافي , اعتماد مبادئ الحرّيات الفردية والمساواة .كل هذا يعني ان العولمة ليست مجّرد «تدويل»بل مدخل تاريخي الى انسانية جديدة .
وهذه العولمة تكون وليدة تراكم وتداخل وتفاعل بين «عولمات» متعددة :عولمة الأسواق التجارية , اي انفتاحها بعضها على بعض ,»عولمة الثقافة اي ان قيم الحرية والمساواة والعقلانية والنقد تصبح معايير الترّقي البشري .وعولمة السياسة اخيرا» بحيث تغدو مبادئ تداول السلطة سلميا» وقيام دولة الحقوق والواجبا ت والديموقراطية.
.
https://sites.google.com/KamalBracks.1/