بقلم بيار سمعان

موضوع الاربعاء الماضي في هذه الزاوية كان له ردود فعل متضاربة
معظم المتصلين من استراليا أثنوا على المعالجة الجريئة والموضوعية حول خلفيات جولات وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل واصطدامها بامارات الطوائف والسياسيين في لبنان.
واثارت مقالتي جدلاً في لبنان بين انصار التيار الوطني الحر وآخرين ينظرون الى الواقع والاحداث من منظار مغاير ويستشم من الحوادث والتعليقات حول هذا الموضوع عدة امور، أهمها:

ان لبنانيي الانتشار يجهلون ما يجرى في لبنان وافكارهم السياسية هي أسيرة الماضي، ولا تتماشى مع التطورات المستجدة، كونهم تعرضوا لحملة «غسيل الدماغ» نتيجة لتشويه الحقائق في اذهانهم، من قبل جهات معينة.

رغم المصائب الكثيرة التي تعصف بالمجتمع اللبناني، يرفض معظم اللبنانيين ألمس بقناعاتهم والتزاماتهم السياسية. وهم بالتالي يرفضون اي انتقاد لهذه القناعات، مهما كانت مجردة او موضوعية.

الزعامات اللبنانية هي بنظر معظم اللبنانيين، من المحرمات التي يرفضون المساس بها. وبامكان المواطن او المفكر ان ينتقد “العزة الالهية”، لكن بالمقابل، لا يحق له انتقاد القيادات السياسية، بعد ان تحولت، في عقول المستضعفين، الى محرمات مقدسة، متجسدة في شخصية “الزعيم والقائد ورجل الدين”، بالنسبة للبعض…
رغم تقارب المسافات، بفعل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لا يزال البعض ينظر الى لبنانيي الانتشار وكأنهم من الخوارج. يحق لهم زيارة الوطن والاستثمار فيه، لكن يحرمون من إبداء الرأي بما يجري في ارضه.
ربما يخشى بعض اللبنانيين من الفكر المتحرر لدى بعض لبنانيي الانتشار الذين اختبروا العمل السياسي المسؤول، في دول اقامتهم، وألفوا قوانين المساءلة والمحاسبة للعاملين في القطاع العام في وطنهم الثاني.

فنحن في استراليا، على سبيل المثال، نراه غريباً ان يرافق اي وزير او رئيس وزراء “رتل” من شاحنات القوات المسلحة خلال قيامه بزيارة منطقة استرالية داخل المدن، او في الاقاليم النائية. ولا نفاجأ بالمقابل ان يقوم الشرطي بكتابة محضر سير بحق رجل سياسي، ان كان نائباً او وزيراً او زعيم معارض، لأننا ندرك ان كل شخص مسؤول، من واجباته ان يقوم بدوره كاملاً عملاً بالقوانين، دون محاباة او تلكؤ، وعلى المواطن مهما رفع شأنه ان يحترم هذه القوانين، أو ان يلجأ الى المحاكم للاعتراض على اي اجحاف بحقوقه. ويحق بالتالي لاي مواطن ان يقاضي اي مسؤول، مهما علا شأنه، فهو لن يخشى الملاحقة او التأثر منه. بل على العكس سيقوم الاعلام الاسترالي بدعم حقوقه وتسليط الاضواء على المسؤول المخالف.
هذه الامور المألوفة تدخل في لبنان والعالم العربي، في خانة المحرمات، وتسبب الضرر لاي مواطن يتجرأ على مساءلة زعيم، او التشكيك بمصداقيته، وكيفية ادارته للشؤون العامة، وتعامله مع القضايا السياسية الشائكة او المصيرية. لذا لا يتقبل معظم اللبنانيين ان توجه الانتقادات لزعمائهم خاصة في القضايا التي تمس بسلامة المكوِّن الاجتماعي لديهم.

إشكاليات المجتمع اللبناني
.
كرست إتفاقية الطائف مشاركة الطوائف في الحكم وتقاسم السلطات وتوزيع خيرات البلاد فيما بينها، تحت عنوان العدالة والمحاصصة.

ولابد من التذكير انه منذ قيام لبنان كدولة برز تياران يتصارعان على ارضه:
تيار سياسي- اجتماعي هو “العروبة”، يعمل داخل لبنان وخارجه، وتيار آخر يتمسك بالخصوصية اللبنانية، اي لبنان الفينيقي والملجأ والحضارة المنفتحة وصلة الوصل بين الشرق والغرب.

النزاع بين التيارين خلق خلافات حول هوية الوطن وعمل الدولة والمؤسسات، وأدى الى اندلاع ثورات، كان آخرها الحرب اللبنانية التي انتجت ظهور تيار ثالث ، ينفي في اهدافه البعيدة التيارين السابقين، ويكرس ارتتباطه بإيران، ساعياً الى تخطي الانتماء العربي وارتباط لبنان بمحيطه المجاور، رغم اقتناع الدول العربية بنهائية الوطن اللبناني وبضرورة الحفاظ على البلد المميز، والقادر على مخاطبة العالم بأسره نيابة عنهم، بفعل تنوعه وثقافته وتمدده حول العالم، عبر الانتشار اللبناني، فتتداخل فيه (أي لبنان) الجغرافيا مع التاريخ والمجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة والتنوع، وهذه امور تتعارض مع رتابة الصحراء وعدم تمازج حبات الرمل فيها.

وهذا ما دفع القديس البابا يوحنا بولس الثاني لإعلان لبنان بلداً متميزاً في خصوصياته وفرادة تكوينه ووصفه بالـ”رسالة”. انه رسالة الشرق الى الغرب، ورسالة الغرب الى الشرق، كما هو رسالة وحدة الايمان في تنوعه العقائدي، في عالم معاصر يجري فيه إلغاء البعد الثقافي والتاريخي والديني، وفرض حالة من التشنج الديني، قد يؤدي الى “نزاع الحضارات”، كما يسعى البعض لنشره في العالم.
كذلك ينطبق على لبنان صفة أخرى، اطلقها السيد المسيح عندما قال: “في بيت أبي منازل كثيرة”، وهذا واقع الامر في لبنان. انه بلد صغير في مساحته، لكنه “بيت صغير بمنازل كثيرة، ان احسن اللبنانيون العيش والعمل معاً، يبنون بلداً مثالياً يحتزى به.

المشكلة تكمن بوجود اكثر من تيار في لبنان، يختلفون برؤيتهم للوطن. فتصميم اللبنانيين على العيش معاً يصطدم اليوم بهذه التيارات وبالتالي برؤية اللبنانيين المتناقضة للوطن والدولة والكيان. وهنا تكمن لب الاشكالية التي تتفرع عنها معظم المشاكل السياسية في لبنان، ويضع الوطن الصغير في مهب العواصف على المستويين الداخلي والاقليمي.

معظم التيارات والاحزاب السياسية هي مبنية على قواعد طائفية، وتكرس بالتالي شعبيتها من خلال شد العصب الطائفي. فالاعتدال او التطرف في هذا الخطاب تحدده الازمات السياسية والتحالفات مع الاصدقاء ضد الاخصام، وحدة الخطاب السياسي الطائفي، الذي غالباً ما يتحول الى متاريس جوالة ونقاط تماس في الاحياء والمناطق، من مظاهرات متنقلة وقطع طرقات، وشل جلسات الحكومة وعمل مؤسسات الدولة او تفردها بالقرارات، وكأنها ادارة مستقلة في سياستها، لا تلتزم بالاصول والقوانين والمراجع السؤولة، بل بمرجعياتها الطائفية، وما تتخذه من توصيات تتلائم مع مصالحها.

واقع البلاد.

الدولة اليوم كالزوج المخدوع. فهي مكبلة اليدين تملي عليها القوى السياسية الفاعلة والقادرة توصياتها وشروطها.
ومقابل كل فعل يوجد ردود فعل. والدولة بمعظم مؤسساتها تتراجع الى الوراء، ويتراجع تأثيرها، الا على المواطنين المستضعفين.
لذا نشهد التشنج في السياسة والعلاقات العامة. السيادة والاستقلال افرغا من معناهما الحقيقي. العلاقات الخارجية والدفاعية هي اليوم تحت رحمة ما يريده حزب الله، المددج بالسلاح.
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، يعاني معظم اللبنانيين من التراجع الاقتصادي والبطالة والتراجع الفاضح في الحركة الاقتصادية مما تسبب باقفال العديد من المحلات التجارية والمصانع الصغيرة.
فالبلد بأسره هو في حالة الخطر: الخطر الامني نتيجة للاوضاع الهشة وتفشي السلاح، ولغياب هيمنة الدولة “العادلة” على حساب كامل الاراضي اللبنانية.
ولبنان فقد استقلاليته بعد ان ربط قادته مصيره بالازمات العاصفة في المنطقة…

وهو بخطر لان قرار الحرب او السلم لم يعد بيد الدولة المسؤولة. وفي حال تلقى حزب الله تعليمات بضرورة فتح جبهة ضد اسرائيل ستصبح الدولة بكاملها هدفاً عسكرياً للعدو الصهيوني، بعد ان تحول حزب الله الى فريق سياسي هو الآمر والناهي، في حين بقى شعار “النأي بالنفس” حبراً على ورق.

فالبطالة المرتفعة يوازيها عجز مالي في خزينة الدولة وتفشي الفساد وتراكم الدين العام، مع غياب النظرة المسؤولة والمعالجة الصحيحة لكل هذه الازمات. ويوماً بعد يوم يسير لبنان نحو المزيد من الافلاس والانهيار الكامل للدولة.
الطامة الكبرى تكمن في الهوة المتنامية بين الحكومة والمواطن وبين مجلس النواب والشعب الذي اوصله الى هذا الموقع المسؤول.

الوطن الصغير

الحقيقة المرة والثابتة، هي ان اغلبية القيادات السياسية في لبنان هي على ارتباط وثيق بالخارج، مالياً وسياسياً، عملاً بمقولة: من يدفع يأمر (Qui donne, ordonne).
فالبلد الصغير يفتقر اليوم للقيادات الوطنية الكبيرة والحرة في قراراتها. ولا بأس ان يتفهم رجال السياسة موازين القوى والتطورات والاحداث المؤثرة في البلاد، لكن ان يتحولوا الى ادوات تحركها قوى من الخارج، فهذه هي المصيبة.

ويبرر معظم السياسيين المرتهنين للخارج ان “الدولة الفلانية” لا تشكل خطراً على الكيان، ولا مانع من التعامل معها. لذا يتراجم الجميع من وقت لآخر فيما بينهم حول العمالة والتبعية.
ان من ينظر بموضوعية الى الاوضاع العامة في لبنان تصيبه حالة من اليأس، ولا يبقى امامه سوى الاعتماد على العناية الالهية، او الخضوع الى الزعامات واللجوء الى المؤسسات الخيرية، او محاولة السفر الى بلد آخر يوفر له ظروف عمل وحياة افضل.
ويوماً بعد يوم يفرغ لبنان من شبابه المثقف ومن اليد العاملة المنتجة والمتخصصة، ليحل مكانها العمالة الاجنبية التي بدأت تتلبنن يوماً بعد يوم.
اغراق لبنان في مشاكل عديدة.
ولابد ان يتساءل المرء: لماذا الاصرار على اغراق لبنان في الديون الباهظة؟ ولماذا لا تعمد الحكومة الى معالجة المشاكل الحياتية بموضوعية وتجّرد، كتوفير الكهرباء والماء والعمل وتحريك العجلة الاقتصادية ومعالجة ظاهرة الفساد ومكافحتها، او على الاقل، لماذا لا تقوم الحكومة والمؤسسات بوضع حد لهذه الظاهرة والحؤول دون انهيار البلاد.
فمن يتآمر على من؟ وما هي الاهداف البعيدة من وراء هذا الانهيار؟
هل يرغب فريق ما بزعزعة اسس الدولة السيطرة على البلاد وإحكام قبضته على جميع مؤسساتها؟
او ان بعض السياسيين يعملون لتحقيق صفقة جديدة عن طريق توطين الفلسطينيين واللاجئين السوريين، رغم كل الخطابات العلنية بضرورة عودتهم الى بلادهم. وكان آخرها مطالبة احد المسؤولين بعودة الفلسطينيين الى الاراضي المحتلة!!

الثابت ان قلة من المسؤولين “قلبهم على الوطن” بعد ان حصروا اهتمامتهم بتياراتهم واماراتهم الصغيرة.
ربما يشعرون بالعجز اليوم، بعد ان اوصلوا البلاد الى ما هي عليه من سوء الاوضاع وعلى مختلف الاصعدة.

وربما يئس المواطنون من امكانية تحسين الاوضاع ودخلوا في حالة من اليأس والشعور بالاحباط، حتى اصبح البعض يترحم على زمن الحرب.
فالى متى سيبقى اللبناني جاهزاً للدفاع عن زعيمه، حتى لو اوصل ذلك الى خراب الوطن؟
نصلي مع الآلاف، دون ان نفقد الامل، ان تحمي العناية الالهية ارض أرز الرب، وان تمر الغيوم السوداء من سمائه ليرى اللبنانيون حقيقة الامور، فيمدوا ايديهم، بعضهم لبعض، ويعيدوا بناء الوطن الذي احبه الله، وحماه رغم كل المحن.

فعبثاً يستقوى الفرقاء على اخوتهم في الوطن، لان الاوطان لا تبنى إلا بالتكاتف والمسؤولية وبقبول الشريك الآخر.
فمواجهة اعداء الخارج يجب ان تبدأ بمواجهة واصلاح الاعوجاج في الداخل. ولا خلاص للبنان الوطن إلا بعودة اللبنانيين الى الانتماء والولاء له، وبناء علاقات ود مع الجميع.
هذا هو دور “لبنان الرسالة”.
فخلاص لبنان هو بيد أبنائه لا غير…