لميس طوبجي- سدني

والماءُ يبدأُ من دمشقَ فحيثما     أسْنَدْتَ رأسك جدولٌ ينسابُ
تبدو الصورة الشعرية في بيت نزار قباني جميلة .. وهي ترمز إلى غزارة المياه التي تنعم فيها دمشق .. فيما يبدو الواقع اليوم حزيناً .. حين يميل المواطن رأسه بحثاً عن نقطة ماء تمدُّ رأسها من الصنبور فلا ينساب ماءٌ ولا جدول ..
الماء اليوم ينتهي في دمشق .. يصل الدَّور إلى دمشق بعد أن وصل كثيراً من أخواتها من المدن السورية منذ بداية الأزمة .. لا دورها في السعادة أو انتهاء الأزمة وإنما في معاناة جديدة .. البحث عن الماء .. معاناة تُضاف إلى سابقاتها من نقص الوقود والكهرباء وغلاء الأسعار والخوف وسواها الكثير.
بدأت رحلة المعاناة الجديدة منذ أكثر من شهر وتحديداً منذ الثالث والعشرين من شهر كانون الأول / ديسمبر 2016 حيث تعرضت منطقة وادي بردى إلى أعمال عسكرية مما أدى إلى خروج أجزاء من مياه نبع عين الفيجة عن الخدمة وتَعَرُّضِ المنطقة للدمار .. وقَطْعِ مياه الشرب عن معظم أحياء دمشق.
وبلدة عين الفيجة تقع غربي دمشق وتبعد عنها حوالي 15 كيلومتراً وكانت تسقي بنبعها دمشق وضواحيها .. وهذا النبع الغزير مياهه نقية وتُعتَبَرُ من أجود المياه على مستوى العالم سابقاً.. والنبع الذي كان مقصداً سياحياً وطبيعياً ساحراً أصبح مقصداً للقنابل والرصاص ..
لم تكن دمشق تعرف مُسبَقاً طعم العطش.. والمرء حين يسير في الشوارع والحارات القديمة يرى سُبُلَ ماءٍ دمشقيَّة متقنة الصُّنع مزيَّنةً بالزخارف والنقوش والكتابات والآيات القرآنية والأبيات الشعرية مبنيَّةً من الحجر والرخام ومزينةً بالفسيفساء. تتدفق المياه من السُّبل لتروي عابري السبيل والمارة ولتنظيف الشوارع والساحات.
والماء يبدأ من دمشق .. يبدو بيت نزار قباني جميلاً وهو منقوش على أحد مناهل المياه .. تتدفق في ذاكرتي سبل المياه الدمشقية ويد أبي التي تتحول كأساً أشرب منها حين كنت صغيرة وكبرت وظل والدي يسقيني بيده من ماء دمشق حَدَّ الارتواء .. جاعلاً من يده نبعاً لا مجرد كأس.. إن الماء علميَّاً سائل شفاف لا طعم له ولا رائحة .. لكن ماء دمشق في ذاكرتي لذيذ مُعطَّر .. فهل كان السر في يد أبي أم في ماء دمشق ؟! أتخيل اليوم يداً كبيرة تروي غليل مدينة فلا أجد .. لا أجد سوى أطفال صغار يطوفون في الشوارع مع دِلائهم لا مع حقائبهم المدرسية بحثاً عن سبيل ماء تتدفق مياهه كي يملؤوا بالماء دلاءً أكبر من أجسادهم .. أجد رجالاً وعجزة يبحثون عن قطرة ماء .. أجد نساء تصطف للحصول على الماء وحَمْلِ الدلاء والأواني بعد أن سافر أولادهن ولا معيل لهن .. أجد بعض الباعة وهم يحتكرون زجاجات الماء ويبيعونها بأسعار مضاعفة دون رقيب .. أجد كيف تحول الماء إلى مصروف إضافي يكسر ظهر الفقراء .. أخاف أن أجد دمشق من غير ماء كي لا تغدو من غير حياة كما قال تعالى: «وجعلنا من الماء كُلَّ شيءٍ حيّ» .. فكيف تتحول مدينة إلى صحراء ويتحوَّل ماؤها سراباً في لمحة حرب؟!
تكيَّف الناس دون تذمر وراحوا يساعدون بعضهم ويبتكرون طرقاً تساعدهم على الاستفادة من كل قطرة ماء للشرب أو للأعمال المنزلية المتراكمة …
انقطعت الماء ولم تنقطع رحمة الله .. فسالَت الماء من السماء من غير صنبور أمطاراً وثلوج .. لاحقاً عادت المياه تُضخ في المنازل لعدة ساعات كل عدة أيام فتلجأ النسوة إلى تعبئة كل ما يتوافر بالماء لاستخدامه وقت الحاجة إليه ..
في الثلاثين من شهر كانون الثاني/ يناير 2017 بدأت المياه تعود لمجاريها تدريجياً, وبدأت مياه نبع عين الفيجة تتدفق من صنابير المياه مجدداً .. عادت المياه نسبياً إلى مجاريها في انتظار أن يكتمل إصلاح الأضرار .. فمتى يعود إلى دمشقَ سِلْمها وأمانُها؟؟ عساها تصدق نبوءة الشعراء ويصدق سعيد عقل حين قال : أجمل التاريخ كان غداً ..