بقلم بيار سمعان

من ينظر الى الكرة الارضية اليوم، يجد ان العالم يعاني بأسره من ازمات وصراعات، يكاد يعجز فيها قادة الدول من ايجاد حلول لها.

بعض هؤلاء القادة يثيرون الشفقة بسبب تورطهم في مشاكل افتعلها آخرون، والبعض الآخر ساهم في وصول الاوضاع الرديئة الى ما هي عليه.

من الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الى الروسي فلاديمير بوتين، من قادة «حماس» الى قادة اسرائيل بزعامة نتنياهو، من الاتحاد الاوروبي الى الاتحاد الافريقي، من ايران الى العراق ودمشق وبيروت، وصولاً الى اسطنبول الى روما وباريس وبرلين ولندن…

من اوروبا الى الاميركيتين، وصولاً الى افريقيا  وجنوب شرق آسيا ودول الباسفيك… لا يوجد بلد في العالم يعيش حالة من الاستقرار الكامل.

فالازمات التي تعصف في العالم اليوم تنتج تحولات كثيرة في انماط سلوك الناس داخل كل مجتمع على حدة، غالباً ما تكون نتيجة صدمة اقتصادية او اجتماعية او ازمة ساسية او نتيجة احتقان ديني او عرقي، يجري التعبير عنه من خلال ردات فعل وسلوكيات عدائية.

< ازمات دينية:

ولا بد من الاشارة الى ان الازمات قد تكون دينية ايضاً، ان من ناحية تفسير العقائد الدينية بشكل مغاير، او تضارب الشروحات فيما بينها، في المذهب الواحد او ضمن الطوائف والمذاهب المختلفة.

كما يمكن ان تكون الازمات ذات طابع ديني عندما يتحول النزاع العقائدي الى اضطهاد يطال مجموعة دينية معينة. فتشعر هذه الاقليات بالقلق على وجودها ومصيرها. وقد تتسبب مشاعر القلق بشدّ عصب المجموعات المضطهدة ودفعها، اما الى النزوح واللجوء الى بلد آخر او حمل السلاح للدفاع عن نفسها. كما حدث في لبنان وايرلندا على سبيل المثال. وهذا ما يتسبّب بالحروب والثروات، على خلفيات دينية بحتة.

< ازمات اسلامية:

فالقضية الفلسطينية، اتخذت منذ النكبة بعداً دينياً، بعد ان جرى ربطها بعناصر دينية. فهي انطلقت كصراع عربي يهودي، لتتحول الى نزاع يهودي – اسلامي، خاصة بعد اعلان دولة اسرائيل و طناً نهائياً لليهود، والقدس عاصمة ابدية لهذا الكيان العنصري الديني الذي يربط نفسه وشعبه بمعاهدات الهية، وارض وعد الله بها ، كما يربط الارض والشعب برؤية مستقبلية ترتكز على مجيء المسيح ( المشيا) المنتظر.

فمعاناة المسلمين في الشرق الاوسط بدأت خلال الحقبة الاخيرة مع القضية الفلسطينية، لكنها لم تنته هناك، بل وصلت الى آسيا وافريقيا وغيرهما.

بعد ان وقع المسلمون في فخ الدعوات الاصولية والارهاب والتطرف الذي يقلق بال المسلمين اكثر من غيرهم، اشتدت الخلافات المذهبية، مع ظهور الثورة في ايران واقامة الجمهورية الاسلامية في بلاد فارس. وسعت هذه الجمهورية بتشجيع من الخارج الى اقامة «الهلال الشيعي» الذي ساهم في اقتلاع انظمة، كما حدث في العراق، او دعم اخرى، كما يحدث في سوريا، والعمل على تغيير الواقع السياسي، كما يجري في لبنان واليمن، ويهدّد دولاً وانظمة قائمة مثل السعودية وغيرها من دول الخليج العربي.

هذه النزاعات الدموية تسببت بهجرة ونزوح  الملايين من الناس وخلقت حالة من اللجوء القسري والمعاناة الانسانية التي ادت بدورها الى خلق واقع جديد مأساوي تنتعش فيه البطالة والحاجة والاعمال الاجرامية والسلوكيات غير الاخلاقية وتتفشى الأوبئة وتكرس الجهل والأمية وتشرّع ما لا يباح به في الظروف الطبيعية.

ولم تكن موجات اللجوء مصدر معاناة للاجئين وحدهم، بل سببت مشاكل عديدة للبلدان المضيفة، اذ خلقت واقعاً ديمغرافياً وثقافياً، رافقه اعمال عنف وسلوك اجرامي، دفع البلدان المضيفة نحو المزيد من التطرّف، على خلفيات دينية في معظم الحالات.

ويعاني المسلمون اليوم من ازمات عديدة خارج الوطن العربي. فهناك ازمة المسلمين الويغور في الصين والاضطهاد المبرمج الذي يتعرضون له، وازمة الروهنغيين المسلمين في ميانمار ومحاولات التصفية. اضف الى ذلك ازمة المسلمين في جمهورية افريقيا الوسطى، ومساعي انفصال مسلمي جنوب الفيليبين عن البلاد واقامة دولة اسلامية، جرى التصدي لها بشدة مؤخراً.

وقد يكون الصراع السني – الشيعي داخل المجتمع العربي وجه من وجوه الازمة الاسلامية المعاصرة بحمولات تاريخية معقدة، اذ بدأت في النزاع على الخلافة تم في القرن الرابع  واستمرت حتى ايامنا هذه، ولو بوتيرة مختلفة. ويبدو ان الشعوب لا تتعلم من تاريخها، لذا تتكرر الاحداث الدموية كلما توفرت الظروف الملائمة او سمحت الانظمة الحاكمة بذلك.

< الازمات المسيحية

يواجه المسيحيون في العالم نوعين من الازمات. الاول هو الاضطهاد المباشر والثاني هو تشويه العقيدة المسيحية ونشر مناخ ثقافي يتعارض معها.

يعتبر الشرق الاوسط مهد الديانة المسيحية التي كانت حتى الفتوحات الاسلامية الديانة الرئيسية في المنطقة. لكن اليوم تصل نسبة المسيحيين الى 5٪ بينما كانت 20 ٪ في مطلع القرن العشرين.

ويعود هذا الانحسار في عددهم الى عدة عوامل، اهمها الاضطهاد وارغام الاقليات على اعتناق الاسلام، وانخفاض معدلات المواليد مقارنة مع المسلمين، والهجرة نحو الغرب، والى الانظمة القمعية التي حكمت الدول العربية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ولا يقتصر اضطهاد المسيحيين على دول الشرق الاوسط. فالمسيحيون مضطهدون ايضاً في الصين، وباكستان والهند وافريقيا، كما هم مضطهدون ايضاً في الغرب نفسه نتيجة للمبالغة في فصل الدين عن الدولة ولوجود حكام ملحدين ينظرون ككارل ماركس الى الدين على انه «افيون الشعوب»، ويجب القضاء عليه.

لكن اخطر انواع الاضطهاد يكمن في القوانين التي تناهض المسيحية وتتعارض مع تعاليم الكنيسة وما يبشر به السيد المسيح. وغالباً ما يجري تشريع مثل هذه القوانين تحت شعار المساواة وحرية التعبير، وحرية المعتقد والحرية الجنسية والمساواة بين الناس.

وعندما يموت الله في حياة الناس يصبح من السهل التحكم بميولهم وسلوكهم العام، ويصبح الفكر الملحد هو المهيمن على ثقافة واخلاق الناس، وتتحكم بآرائهم وسلوكياتهم. لذا بدأنا نرى، خلال السنوات العشر الماضية اباحة زواج المثليين في ما يزيد على 52 بلداً كانت تعرف سابقاً انها مسيحية، ولا يستبعد ان يجري غداً تشريع كل الشواذات والمحرمات. فيصبح الشر مقبولاً، والمحظور مباحاً والخير يستبدله الشر، ويغيب الله من حياة الناس، والايمان به يصبح «موضة قديمة»، وتلعب الحروب والازمات دوراً هاماً في تدعيم هذه الثقافة الملحدة، بعد ان يصل الناس الى حالة من اليأس والكفر بالانظمة والديانات التي يفترض انها توفر السلام والاستقرار وراحة البال للمواطنين.

فالاضطهاد الديني العقائدي يشكّل خلفية لسائر انواع الاضطهادات المادية والمعنوية التي تعصف بعالم اليوم. ويمكن القول ان العالم يعاني من ازمة هوية، ومن النزاع الخفي بين الخير والشر، بين الايمان والالحاد، وبين ما هو صحيح سياسياً وقانونياً وقد لا يكون صائباً اجتماعياً واخلاقياً.

وفيما تميل دول العالم الثالث نحو التشدّد والكبت والتطرّف ، يميل الغرب نحو الفلسفة العدمية التي بدأت تضرب كل الشرائع والاخلاقيات بقوانين تدعم ظاهرياً الحرية الفردية وتسيء الى وحدة العائلة وتلغي جميع المثل الاخلاقية.

< عالم يسكنه الرعب

وفيما يعاني الشرق الاوسط والغرب من الممارسات الارهابية، تتهم الولايات المتحدة الاميركية انها ترعى الارهاب وتتسبّب بالحروب وتفتعل الازمات الاقتصادية للتأثير على الدول وفرض سياستها عليها.

بالمقابل تعيش الولايات المتحدة نفسها عدداً من الازمات السياسية والاقتصادية، وبدأ الاميركيون يشعرون ان قوى اخرى هي في طريقها الى مزاحمة بلادهم على قيادة العالم. فالمحور الصيني – الروسي بدأ نفوذه يتصاعد على الساحة الدولية، خاصة ان الصين اصبحت تمتلك قدرات بشرية ومالية وصناعية هائلة يصعب تجاهله.

والولايات المتحدة تعيش ازمة سياسية مع ترامب، وازمة علاقات مع دول ومؤسسات دولية، وازمة اقتصادية مع تخوّف شديد على انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي.

وبإيجاز يمكن القول ان اوروبا تعيش عدداً من الازمات، منها السياسية وبعضها ديمغرافي، وازمة علاقات مع روسيا والولايات المتحدة، بعد ان تبدلت موازين القوى ولم يتمكن الاتحاد الاوروبي حتى يومنا هذا من تكوين قوة قادرة على قيادة العالم، بل تحولت الى لاعب ثانوي يسير في فلك الولايات المتحدة. كما تعيش اوروبا مجدداً هاجس حرب جديدة تكون القارة الاوروبية مسرحاً لها.

وتسبّب تدفق اللاجئين بتهديد وحدة الاتحاد الاوروبي بعد ان ذابت القومية الوطنية لكل دولة مستقلة، وفقدت استقلاليتها وحرية القرارات السياسية التي تكبلها قوانين الاتحاد، واهمها فتح الحدود بين الدول والالتزام بقوانين الاتحاد الذي بني على حساب استقلالية الدول الاعضاء وصيانة حدودها وهويتها المميزة.

< ازمات اخرى

ويمكن ان نورد اكثر من مثال على انتشار الازمات . فتركيا اردوغان هي في ازمة سياسية واقتصادية وعسكرية، ومصر في ازمة، وتونس. ودول افريقية تميل اليوم كي تتحول الى قارة سوداء، وهي تعيش ازمات سياسية ونزاعات عرقية وقبائلية ونزاعات دينية ومشاكل اقتصادية.

وتعيش استراليا عدداً من الازمات السياسية والاسترالية. فانقسام الاحزاب واستبدال رؤساء الوزراء الخمسة خلال عشر سنوات غياب الرؤية المستقبلية الموحدة، والقلق من تصاعد وتمدّد القوة الصينية، والقلق من تنامي قدرات اندونيسيا.. كل هذه الامور، تخلق حالة من القلق السياسي في ظل الانقسامات الحادة بين الاحزاب.

كذلك تعيش دول اميركا الجنوبية حالة من عدم الاستقرار والبحث عن الهوية ودور سياسي يتلاءم مع حجمها الاقتصادي وثرواتها البشرية والطبيعية. لكن هذه الدول هي غير قادرة على التخلّص من نفوذ وتأثير الولايات المتحدة على اوضاعها الداخلية.

الواضح ان عالمنا اليوم دخل مرحلة جديدة من التفكّك وانه يعيش ازمة سياسية عالمية خطيرة وقد تكون مدمرة، يتناحر فيها اميركا مع روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران، وقد تلتحق بهم اوروبا.

انها ازمة سياسية متعددة الوجوه قد تقود الى تغيير الكثير من المفاهيم. لقد تبنى القادة الاميركيون السابقون فكرة «صراح الحضارات» تحت غطاء محاربة الارهاب، لكن تبين انه صراع الاجراء بالوكالة عن الكبار.

لقد تحوّل عالمنا اليوم وبشكل كارثي نحو الحروب المدمرة، وحروب الفوضى الخلاقة، وحروب شرق اوسط جديد والى نزاعات روسية اوروبية اميركية.

العالم يعيش ازمة مستدامة ومتجددة ومتفاعلة. اننا نعيش مرحلة اليوم قد تكون مقدمة لاحداث اشد خطورة على البشرية بأسرها.

فمع نشر الأوبئة والجراثيم وخفض الانبعاثات الحرارية والتحكّم بالطقس والزلازل، وتصميم البعض على خفض عدد سكان العالم يصبح مبرراً التخوّف ان تكون الازمات التي يعيشها العالم اليوم ما هي سوى مقدمة لافتعال المزيد من الحروب في اكثر من دولة وقارة.