مأمون الحاج

«قلوب بلا رحمة، تدريب قاسٍ، تمويل منقطع النظير»، هكذا يبدأ الراوي سرد حكايته الوثائقية الاستقصائية «الطريق إلى الموت»، الذي أنتجته «سكاي نيوز عربية» وعرضته الأسبوع الماضي، وغدا متوافراً على الانترنت منذ يومين (1/11).
يمتدّ الوثائقي على ما يقرب من 45 دقيقة، تنقسم على محطات الرحلة بين لندن، باريس، مدريد، ثمّ تركيا، فالرقّة السورية، في تتبع لطريق مهاجرين مسلمين من الدول الأوروبية الثلاث باتجاه سوريا حيث «دولة الخلافة»، للقتال في صفوفها، والعيش في كنفها.
يشغل الجزء المخصص للندن وباريس ومدريد على التوالي، معظم وقت الفيلم، حوالي 36 دقيقة، ليتبين مع تقدم الفيلم أن «الطريق» الذي يجري الحديث عنه، ليس إلّا مجازاً يراد به التركيز على دوافع يقدمها صانع الفيلم، باعتبارها السبب وراء خروج شبان مسلمين أوروبيين، لـ «الجهاد» في سوريا والعراق. يثبت وجهة النظر هذه أنّ الدقائق القليلة المتبقية من الفيلم لتركيا والرقّة، لم تقدم إضافات جدّية للرسالة المركزية للفيلم، وإنما جاءت ضرورة لكسر المجاز وتثبيت صفةٍ «استقصائيةٍ» للفيلم، هي نافلة فيه.
في لندن تبدأ الحكاية، تصور الوقائع أولاً، تعداد المسلمين وتوزعهم. وبقفزة واحدة، يجري الانتقال إلى شخصية محدّدة تنسج الحكاية خيوطها بهديها، وهو الأسلوب الأكثر شهرة في الأفلام الوثائقية الاستقصائية. وفي هذه الحالة كانت الشخصية هي أنجم تشودري، الداعية الإسلامي البريطاني المتطرّف، والمؤيّد الصريح لـ «داعش»، والذي يعيش حياةً مكتملة الأركان في بريطانيا، ويعمل محامياً ورئيساً للمحكمة الشرعيّة الإسلاميّة فيها. بمقابله تظهر شخصيّة إسلاميّة معتدلة تنقض حديثه في ما يشبه مناظرة غير مباشرة بين الاثنين. ويشير الراوي إلى علاقة تشودري بالعديد من مقاتلي «داعش» البريطانيي الجنسية، ولكنّه يغفل عن طرح سؤال بسيط هو لماذا يجول شخص كهذا طليقاً في بريطانيا؟ يتكرّر السؤال المحجوب نفسه مع شخصيّة الحسن الكاسرين الذي سبق له أن سجن ثلاث سنوات في غوانتانامو وسنة في مدريد بتهم تتعلَّق بالإرهاب وبتنظيم القاعدة. يقيم الكاسرين في إسبانيا وله علاقة معروفة بداعشيين إسبان في سوريا، ولكنَّ مشهد التحقيق أمام «القضاء الإسباني النزيه» لم يثبت شيئاً عليه، ولذلك فهو سيستمرّ بتجنيد شباب للقتال إلى جانب «داعش»، من دون أن يحق للمشاهد أن يسأل لماذا وكيف.
بالتوازي مع الحديث عن تشودري ومعه، تظهر شخصيّة محمد جاسم الأموازي لتحمل الحكاية خطوة أخرى إلى الأمام. الأموازي مقاتل في صفوف «داعش» وكان تلميذاً لتشودري، والذي وجد الاستقصاء ــ من دون أن يبيّن للمشاهد كيف ــ أنّه تمّ تجنيده عبر شبكات التواصل الاجتماعي. يحمّل الفيلم تلك الشبكات مسؤوليّة الإرهاب الدولي جنباً إلى جنب مع مساجد أساسيّة في المدن الأوروبيّة الثلاث. يقف الاستقصاء عند هذا الحدّ خالقاً بذلك حلقة مغلقة، تبدأ من التنظيم الذي يشتغل على شبكات التواصل وضمن المساجد، وهذه تخلق بدورها التنظيم، وهكذا دواليك في تبرئة ضمنية للدول الأوروبية الثلاث وحكوماتها. تتعزز شهادة البراءة تلك بثلاثة «أدلَّة»، أوّلها حديث مسؤول أمنيّ إسبانيّ، وثانيها إلقاء التهمة بأكملها على أجهزة استخبارات تركيّة على لسان متابع إسباني لنشاط الإرهابيين على شبكات التواصل: «ماذا حدث؟ هل أصبحت الاستخبارات والشرطة التركية غير مؤهلة لأداء عملها؟»، ومن ثم على لسان أبو الليث السوري المتعامل مع أبو عمر الشيشاني على حد زعم الفيلم، وثالثها تحليل نفسي/ اجتماعي للأسباب التي تدفع أفراداً بائسين ومهمشين للانخراط في التنظيم الذي يجد طريقه إليهم «بقدرة قادر» وبمساعدة وسائل التواصل والمساجد..
ينتهي الفيلم عبر قفزة في الهواء نحو الرقة، «على طريقتنا» التي لم يكشف عنها الفيلم، وصولاً للختام الذي يعدّد أشكال موت هؤلاء الشبان الأوروبيين المحتملة: على يد التنظيم نفسه إن هم حاولوا الفرار، أو في المعارك، أو بقصف التحالف الدولي الذي يحوز هنا شهادة سياسية مجانية بأنّه محارب جدي للإرهاب.
يتخلّل الفيلم بعض «الأكشن» الذي لا بد منه، فهنالك الوجوه المموهة، والكاميرات التي تصور الأرجل، وذلك في مواضع تبدو ضرورية وفي مواضع أخرى تبدو غير مبرّرة يراد بها التشويق ليس إلا، من ذلك مثلاً «مدينة نفضل عدم ذكر اسمها» ذهب إليها فريق الاستقصاء للقاء رجل ظهر بوجهه الصريح وتكلم لأكثر من دقيقتين شارحاً ومفسراً، وإمام جامع معروف «قبل الحديث إلينا شرط ألا نصور وجهه».
يقدم «الطريق إلى الموت» تكراراً للصورة النمطية التي يصنّعها الغرب لتنظيم «داعش»، فهو يركز على كون مسألة «داعش» بأسرها نتاجاً إسلامياً داخلياً. صحيح أنّ هناك اعتدالاً إسلاميّاً في المقابل، لكنّ التنظيم ظاهرة دينية وإسلامية، وتسقط بذلك جذوره السياسية وغاياته. يفصل الفيلم الإرهاب عن الغرب بأسره على أساس وجود «قطع أيديولوجي» بين الغرب وبين الإسلام. وإذا كانت تركيا من أكثر الدول تورطاً في مسألة «داعش»، فإنّ تركيز الفيلم على سند التهمة إليها لم يأت في سياق التناول الموضوعي بقدر ما جاء في سياق تبرئة المسؤولين الآخرين الأكثر تورطاً بالمعنى العميق.
تقدم «سكاي نيوز عربية» بفيلمها الجديد، حكاية هوليودية للأطفال، مشوّقة وبسيطة، ومترعة حتى النهاية بوجهة النظر الغربيّة الخالصة التي تستهدف قبل أي شيء آخر ألا تفهم شعوب المنطقة شيئاً مما يجري حقيقة، لتبقى عاجزة عن تغيير واقعها الذي تعيشه.