في الأيام الطبيعية، عندما نحجز بطاقات لحضور مسرحية، نكون في أقلّ تقدير مطّلعين على شكل المسرحية ونوعها، ولكن أن تشاهد مسرحية «الستّ بديعة» فتتوقّع كلّ شيء إلّا أن تدخل مسرحاً تمَّ تحويل خشبته معبداً كاهنتُه تبيع جسدها للمحافظة على شرف مدينة، وكاباريه نجمتُه عجوز ممتلئة شهوةً، ومنزلاً تدفن في داخله ذكريات رؤساء وفنّانين وأثرياء… توَقّعنا كلّ شيء إلّا الذي شاهدناه.
خَفتت أضواء مسرح «مترو المدينة» وصَدحت أغنية فريد الأطرش «يا زهرةً في خيالي»، وأحسَسنا بأنّ النوستالجيا بدأت تتمختر بين الكراسي والطاولات تدغدغ فينا حنيناً إلى أيام تشبه أحلامنا وتناقض واقعَنا.
وعندما فُتحت ستارة المسرح الخضراء الكبيرة، بدأنا التلصّص على غرفة فسيحة ممتلئة بالثياب والأكسسوارات والأثاث، غرفة الستّ بديعة التي تُجَسّد دورَها ندى أبو فرحات، تحت إدارة الكاتب والمخرج جيرار أفيديسيان.
لا يهمّ مركزك الاجتماعي وحسابك المصرفي، ولا يهمّ حجم «برستيجك»، لأنك لحظة تجلس أمام تلك الخشبة تضمحلّ كلّ تجاربك أمام أداء وإخراج وديكور وقصص سرّية تكرّس بيروت أيقونةً تتدلّى من عنق هذا الشرق على صدر مجتمع يحبّ الجنس سرّاً ويبني به أساطير، فتتحوّل كلّ قصصك التي تتباهى بها أقزاماً أمام خبرة الستّ.
خلعت ندى أبو فرحات في دورها هذا كلَّ شيء على المسرح، خلعت جمال وجهها وشعرها، خلعت مشيتها ونحافة بطنها، وحتى إنّها خلعت صوتها، فلعبَت الدور مكتملاً بصوت عجوز مستعار، نَقلت به أخبار الستّ بديعة من خلال نصّ دسِم، قليلة فيه اللحظات التي تصمت خلالها بديعة.
ولمّا خصَّ جيرار أفيديسيان ندى بالبطولة منفردةً، رحنا نتساءل طوال مدّة العرض كيف أمكنَ لهذه الممثلة في عرضها الأوّل أن تحفظ هذا الكمّ من السطور والأفكار والكلمات، وتؤدّيها بصوت مستعار بطريقة مبتكرة ومقنعة، من دون أيّ تردّد أو سهو.
وإلى جانب البلاغة في النصّ، استحوَذت أبو فرحات على اهتمامنا بحركة جسدها المرسومة بتقنية عالية، فتمايلت بين الفساتين والكنَبات بخطوات رقص أرستقراطية.
صراحةً، دخلنا المسرحية وخرجنا منها من دون أن نعرف نوع العمل، فكان فيه الكوميديا والكوميديا السوداء، الميلودراما والتراجيديا، الرومنسية والاروتيكية، الموسيقى والرقص والـ»Burlesque»، فكانت مسرحية تنقل الليلة الأخيرة من حياة الستّ بديعة التي تروي فيها أسرار بيروت وحكّامها وزوّارها الأغنياء.
وفيما حافظت بديعة على صحّة عقلها، لتتذكّر أحداث الماضي بنقاوة شاشة ذهبية، كان جسدها الهزيل يعيش في براثن شيزوفرينيا الوقت، فتراها بين المشهد والآخر، وبين ذكرى موعد رومنسي ولقاء جنسي، تتخبّط بين مشاعر قلبها الملتهبة وجسدها الرازح تحت نير السنين.
كانت «وحشِة تمثيل» ندى أبو فرحات في دور الستّ بديعة، فالتهمت اهتمامنا بشراهتها لأداء الدور بشكل متكامل، فكانت مقنعة إلى حدّ إضحاكنا وإبكائنا في نفس الوقت، وجرِّ شهوتنا إلى القصص المغرية وتعاطفنا في أخبار الحبّ الناقصة، ومقنعة في تحليلاتها السايكولوجية لأداء الرجال الجنسي ورغباتهم المدفونة في ثياب أنيقة.
لم ينجرّ جيرار أفيديسيان في «الستّ بديعة» إلى الغوص في إشكاليات الموت وما بعده، ولا إلى الحديث عن الحرب اللبنانية وتأثيراتها. في عمله الأخير هذا، حوّلَ أفيديسيان مسرحية تحكي عن أسرار بيروت والأيام الأخيرة من بطلتها البديعة، عملاً يرتقي إلى مصاف العالمية وينطبق بإسقطاته العديدة على أيّ مجتمع أو مدينة، لأنّ خوف المخرج لم يكن من الموت بل من العجز الذي يسبقه، حيث يتحوّل الجميع إلى شحّادين، يشحدون العاطفة والحبّ والرعاية والجنس والمال… ولا يحكي عن موت مدينة، بل يخلّدها في قصّة الستّ بديعة التي تجَسّد بيروت التي لا تموت.