شوقي بزيع

يحتاج الشعر، كغيره من الفنون، إلى قدر من الجهد والكد والإصغاء إلى دواخل النفس بما لا يدع للشعراء إلا القليل من الوقت للاهتمام بشؤونهم المعيشية المختلفة. ولهذا يعاني الشعراء من شعور بالمرارة ناجم عن التفاوت الذي لا سبيل إلى إزالته بين محدودية الحياة ولا محدودية الكتابة. وبما أن الشعر ليس مهنة يمكن المصابين بلوثته أن يعتاشوا منها، وبخاصة في العالم العربي المنصرف عن القراءة انصرافاً شبه تام، فإن الشعراء ملزمون بالبحث عن مهنة ما تقيهم غائلة العوز والفاقة وتوفر لهم الحد الأدنى من العيش الكريم. على أن هؤلاء، بوصفهم كائنات مفرطة في الحساسية، لا يذهبون إلى المهن ذات الغايات الربحية والتي تبدو على تعارض تام مع جنوحهم نحو كشوف الداخل، كالعمل في شؤون التجارة والصيرفة والمقاولات، بل إلى مهن «الاشتباك» مع اللغة بوجهيها الشفهي والمكتوب، كما هو شأن المجالين التدريسي والإعلامي. وبصرف النظر عن حاجة الشاعر إلى كامل حريته وفضائه ووقته، وعن الطاقتين الجسدية والروحية اللتين يمنحهما لعمله المهني، فإن كلاً من التعليم والإعلام يمنحانه فرصة الاحتكاك الدائم باللغة، بل ويساعدانه على رفدها بأسباب الثراء التعبيري ونقلها من بطون القواميس إلى مختبر التواصل الحيوي بين البشر.
على أن عمل الشعراء في مجال الإعلام تتفاوت حسناته ومضاره بين حقل وآخر. فالعمل في الصحافة المكتوبة، على ما يتطلبه من جهود يومية مضنية، يتيح لهم فرصاً متجددة لصقل اللغة وتليينها وتوسيع دائرتها لتطاول مختلف الهواجس والمواضيع والمقاربات، حيث يمكن للغة النثر أن الظهير الفعلي لبراعم القصائد التي تتهيأ للتفتح. وحيث العمل الإذاعي يقع بلغته المسموعة في منتصف الطريق بين المحسوس والمتخيل، فإن الإعلام المرئي هو الأخطر على الشعر. ليس فقط لأن الاهتمام المفرط في الشأن البصري يصيب البصيرة بالضرر ويتم على حسابها، بل لأن متطلباته التقنية والميدانية تلتهم معظم الوقت الذي ينبغي تخصيصه للقراءة والكتابه، بقدر ما تحرّف الرسائل العصبية للشاعر عن وجهتها الأصلية. والأخطر من ذلك هو التعارض القائم بين حاجة الإعلامي إلى أقصى مناطق الضوء، وحاجة الشاعر الذي فيه إلى أقصى مناطق الظل. فالإعلام بغالبته يقيم في «نهار» الشكل، بينما الإبداع يقيم في «ليل المعنى»، على ما يقول صلاح ستيتية.
لا يعني ذلك بأي حال نفياً لقدرة الإنسان على الجمع بين الإعلام التلفزيوني وبين الشعر، حيث الأول نشاط مهني والثاني موهبة فائرة. ولكنه يعني أن على المشتغلين بهذه المهنة أن يبذلوا جهوداً مضنية لتحرير أنفسهم من خداع الضوء وبهرج الشهرة العابرة، وأن يبذلوا جهوداً مماثلة للإصغاء إلى دواخلهم، كما لإثراء موهبتهم بالكثير من القراءة والاطلاع والحفر المعرفي. وهم فيما يكتبون أو يوقّعون على مجموعاتهم الجديدة يجب أن لا تأخذهم سكرة الانتشاء بالجموع التي تتحلق من حولهم،، مميزين بذكاء بين الاحتفاء بهم كنجوم على الشاشات والاحتفاء بهم كشعراء ومبدعين. وإذا كانت النجومية بحد ذاتها ليست سبباً كافياً لمنح بعضهم التأشيرة الملائمة للدخول إلى مملكة الشعر، فينبغي بالمقابل أن لا تكون سبباً للإفتئات على الشعراء والكتاب الحقيقيين والتشكيك في مواهبهم الأصيلة، بداعي عدم حقهم في الجمع بين «مجد» الشاشة و «مجد» القلم. كما علينا، في زمن التسّيب والفوضى المستشرية أن نميّز في شكل دقيق بين من امتلكوا في الأصل ناصية اللغة الشعرية، قبل أن يختاروا الإعلام مهنة لهم، وبين من وجدوا في الشهرة المتأتية عن الإعلام فرصتهم الملائمة لانتحال صفة الشعر وحيازة اللقب الأقرب إلى قلوب العرب أجمعين. وانطلاقاً من هذا التمهيد، وفي ضوء النقاط التي ذكرت، أحاول بقدر من الإيجاز أن أقارب الإصدارات الشعرية الأخيرة لكل من الإعلاميات نوال الحوار وكريستين حبيب وعبير شرارة.
في مجموعتها الأخيرة «تغريبة الغزالة» لا تبدو الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار، والتي تعمل في قناة «أي . أن . بي» ، محكومة بهاجس التنفيس عن الرغبات الأنثوية المكبوتة الذي يكاد يطغى على معظم الكتابات العربية النسوية في الآونة الأخيرة. وإذا كان موضوع الحب ليس غائباً بالكامل عن المجموعة فإن غالبية النصوص تدور حول مواضيع أخرى متصلة بالموت والفقدان وتلف الأماكن أو فسادها. هكذا يبدو العمل برمته مرثية مختلفة الوجوه للسعادة الآفلة، بحيث لا ينفصل موت الأخت عن خراب المدن أو إخلاء الحبيب مكانه لخواء الداخل وتصدّعات الروح. والكتابة عند نوال لا يتمّ تصنيعها في مشغل العقل بل داخل القلب المثلوم بالعاطفة، وبخاصة في النصوص المتعلقة بالمأساة السورية، حيث تغرق أجمل المدن وأكثرها عراقة في برك من الدمع والدم. ففي قصيدتها عن حماه تقول نوال «ألنواعير تحتضر الآن / ما بين خفقة قلب وخفق، \وقلت لنفسيَ : يا بنتُ / أفْضل ألا تبوحي / وأصغيت أصغيت \ كان بكاء النواعير في الليل / يبني ويهدم روحي». كما تجنح اللغة في مراثي الأخت الى المزاوجة بين الانسياب الإيقاعي المفعم بالشجن وبين الصور المنتزعة من رحم الصحراء وعوالم المكان البدوي الذي تنتمي إليه الشاعرة «كبرنا معاً \صبَّ فينا الزمان من العمر بضع سنين \ كما صبّ في النخل خيلاً وليلاً / وغيماً يجرّيء بنتاً على حلّ شعر السماء». إلا أنني من جهة ثانية لا أجد مسوغاً مقنعاً لإقحام نصوص أخرى يغلب عليها طابع التقرير والإنشاء الوصفي داخل هذه المجموعة. ويصعب أن يتجاور في عمل واحد نص مؤثّر من طراز» ونحن ابنتان لصحراءَ / لكننا مثل كل البنات / لنا فَرَسان تجيئاننا بأميرين في الحلم / نصحو على قُبل طعمها من لبان»، ونص إنشائي مسجع من مثل «الخطأ فادح / والحزن قارح / والهوى بارح \أترك ماء بحرك يعصف بكل سفني الواهمة». ومع ذلك فإن من الإنصاف بمكان أن نعترف للشاعرة بالنقلة المهمة التي تنجزها بين مجموعة وأخرى، على أمل بأن تتّجه نصوصها المقبلة نحو المزيد من التكثيف والتبلور والتخلص من الزوائد الفائضة.
وبخلاف نوال الحوار تتجه كريستين حبيب في مجموعتها «عن نجمة هوت» نحو قصيدة النثر الموزعة بين المقطوعات القصيرة والبرقيات الأشد قصراً التي تشبه التوقيعات. كما أن الحب والإنهمام بالرجل يشكلان الهاجس الأبرز لدى الشاعرة التي تعمل بجهد ملحوظ في إحدى قناة الجديد اللبنانية. يكفي أن نستعرض عناوين من مثل «في عشقنا»، «أريدك فارساً»، «كل شهر وأنت المطر»، و «في الغابة تزوجنا»، لكي نتبيّن الأرض الفعلية لكتابة صاحبة «لا تقطف الوردة « التي ترى في الأنوثة قيمة مضافة على الشعر كما على الحياة نفسها. لكننا لا نجد في كتابة حبيب أثراً للابتزاز الغرائزي أو الاستعراض اللغوي والجمالي الفاقع. ورغم أن غلاف الكتاب يشير إلى كلمة «شعر» بعينها، فإن صاحبته لا تبدو شديدة الاكتراث بالانتساب إلى نادي الشعراء بقدر ما تكترث للتعبير عن نفسها بتلقائية وصدق. الكتابة هنا هي أقرب إلى الترسل والبوح العاطفي وخلجات القلب منها إلى أي شيء آخر. لهذا يمكن لنا أن نلاحظ في بعض النصوص نوعاً من الكلام النمطي المأوف، أو مقارنة متعسّفة بين وجه المرأة والربيع العربي، حيث نقرأ «لن تعرف وجهي / ما عاد سهل قطن \صار ميدان ثوار \ وساحة أحرار». لكن وسط الكلام العادي تلمع لقىً مفاجئة من مثل «كلما لمع ضوء انطفأت نجمة في قلبي»، أو «وما أجمل من قيثارة سوى قيثارتين تصيران قيثارة «، أو «ظلت تصنع له القوارب / وهو يهندس لها طائرات من ورق \حتى أبحر عنها إلى جزيرة بعيدة \ وهي طارت عنه إلى القمر»، أو «لن أتركك وحيداً كطفل في غابة\ سأكون الحصى الصغيرة التي ترشدك إلى طريق البيت». ولحسن الحظ أن مجموعة حبيب مكتظة بمثل هذه اللقى اللماحة، إضافة إلى خلوّها النسبي من الحشو والإطالة والتهويل اللفظي.
أما عبير شرارة التي تقدم وتعد برنامجاً ثقافياً في تلفزيون لبنان الرسمي فتختار لكتابها الأول عنواناً لافتاً بكل المعايير هو «الأنا غير متوفرة حالياً». فالكتابة الإبداعية بوجه خاص تتطلب استنفاراً بلا حدود لأنا الكاتب، بحيث لا يؤدي عدم توافرها إلا إلى الصمت والعجز التامين. وسواء قصدت شرارة الأنا الإبداعية التي تحتاج بعد إلى المزيد من التحقق، أو الأنا العاطفية التي يؤكد شغورها قول الشاعرة «لا أنت هنا / ولا الأنا متوفرة حالياً لألتقط أنفاسي الأخيرة «، فإن العنوان يشد انتباه القارئ بما يثيره من تساؤلات واقعة على الحد بين الشعر وعلم النفس. كما أن إلحاق العنوان بكلمة «نصوص» ليس بمحض المصادفة بل لوضع الكتاب في السياق الملتبس الذي يقع بين الشعر والنثر، بين الفضاء السردي والفضاء التأويلي، بما يقرّبه من مبدأ «النص المفتوح» الذي يهدف إلى إزالة الحواجز بين الأنواع الأدبية. ولعل نصوص الكتاب بحد ذاتها تؤكد هذا الالتباس الذي يأخذها أحياناً إلى قلب الشعر ويأخذها أحياناً أخرى إلى الفضفضة العاطفية والتداعي الرومنسي. فثمة من جهة نصوص مفاجئة وغنية بالدلالات، مثل «لقد تجاوزت الساعة نصف الليل /على الأرجح سأنام عندما يحين الوقت \ على الأرجح أنني نائمة الآن / أينني ؟ / لا أحد على السرير»، و?»ليس لك معي سوى نصفي / والنصف الآخر ليومي الأسود»، و?»أبي يحرّر أحلامنا / هو لا ينام / وإذا أصابه التعب يستلقي على كفّه / مخافة أن يشرد حلمٌ فيضيّعنا». وثمة في المقابل نصوص ترهقها المباشرة والرطانة والترسل النثري، مثل «يا صديقتي / لا أملك حلاً لحالتي / خطوة إلى الوراء لا أحتمل / أخرى إلى الأمام لا تكتمل / أطمع باحتمال ثالث /هل من اقتراح ؟»، أو مثل «لا ليس مغادراً، أيعقل ؟ /ليس هو / هو / وجهه الوسيم /نعم هو \ أراه نعم أراه / قف مكانك».
ثمة، أخيراً، فروق غير قليلة بين أساليب الشاعرات الثلاث وعوالمهن وأدواتهن التعبيرية. وهو أمر طبيعي ما دام الشعر في صميمه شأناً فردياً لا يتم تقاسمه مع أحد. على أن ما يجمع بين هذه التجارب الثلاث ليست الموهبة وحدها، وهي موجودة بأي حال، بل وقوفها على المنعطف الخطر بين جوهر الشعر وعرض الإنشاء. وحيث تطفأ الأضواء تماماً هنّ وحدهنّ من يقرّرن حمل الصخرة إلى آخر الجبل أو الاكتفاء بالمكوث في منتصف الطريق.