Pierre-Semaanتفاجأ الاستراليون بالانقلاب المباغت ضد رئيس الوزراء السابق طوني آبوت. ولم يكونوا يتوقعون هذا الانقلاب عليه رغم كل المؤشرات التي صدرت من هنا وهناك، خاصة من قبل بعض وسائل الاعلام وفي مقدمتها مؤسسة فيرفاكس والـ ABC وعرابهما وزير الاتصالات السابق ورئيس الوزراء الحالي مالكولم تيرنبل.
وقد اثار هذا الانقلاب موجة غضب على تيرنبل واشمئزازاً من اعضاء حزب الاحرار وعامة الشعب الاسترالي، وموجة استياء ممن طعنوا طوني آبوت دون مبرر علني او اسباب جوهرية توجب افتعال مثل هذا الانقلاب. فما هي العوامل التي اطاحت بطوني آبوت وهل كان آبوت بالفعل رئيس وزراء فاشل اوجب التخلص منه بهذه السرعة واستبداله بمالكولم تيرنبل الذي يصفه رئيس حكومة فيكتوريا السابق جيف كينيت بالانتهازي والوصولي والاناني الذي لم يراع يوماص مصلحة حزب الاحرار بل عمل ويعمل منفرداً ولمصلحته الخاصة. وليس مستبعداً ان يتصرف كرئيس جمهورية وليس كرئيس وزراء يتفاعل مع وزرائه كفريق عمل متماسك…!؟
ومهما يقال عن شخصية تيرنبل، يبقى الأهم هو تحديد العوامل التي تسببت بالاطاحة بطوني آبوت. وباعتقادي  ان هناك اسباب داخلية وخلفيات خارجية لقرار الانقلاب المفاجئ.
 آبوت والولايات المتحدة
كان آبوت يكرّر في اكثر من مناسبة انه يحب الله واستراليا قبل كل شيء. ولا احد يمكنه ان يشكك من ذلك. فالرجل هو انسان مؤمن وكاثوليكي ملتزم. ولا يستحي بذلك ، فإيمانه حدد مواقفه من امور وقضايا مصيرية، ولم يخجل قط آبوت من القيام بواجباته الدينية كأي انسان بسيط مؤمن طبع ايمانه سيرة حياته اليومية واستفاد من هذا الإيمان لشرح القضايا الهامة واتخاذ مواقف ثابتة منها.
اما محبته لاستراليا فقد  تبلورت في مواقفه العامة وعلاقاته مع السكان الاصليين وفي اتخاذ قرارات قد لا يجرؤ اي زعيم سياسي من الخوض فيها. وسوف اتطرق لهذه المسائل لاحقاً.
ظن البعض ان طوني آبوت يحن الى بلده الأم بريطانيا، عندما طالب باعادة استخدام القاب النبلاء مثل Sir او Dame وغيرهما.
باعتقادي ان المسألة هي اعمق من ذلك، فهو اراد التقرّب من بريطانيا في مسعى منه للابتعاد اكثر عن الولايات المتحدة. ولا عيب في ذلك، طالما ان الملكة لا تزال تحكم البلاد، ولو رمزياً بواسطة الحاكم العام وحكام الولايات. وللعائلة المالكة استثمارات ضخمة في قطاع التعدين والزراعة وغيرهما. وهي دستوريا ملكة البلاد، حتى اعلان عكس ذلك.
اما ابتعاد آبوت وحكومته السابقة عن الولايات المتحدة فقد بدا جلياً في عدة مسائل وفي اكثر من مناسبة.
 زواج المثليين
يختلف آبوت مع الادارة الاميركية المتمثلة بالرئيس اوباما في امور عديدة، اذكر منها ما يلي:
الرئيس اوباما اعلن في اكثر من مناسبة انه يؤيد ويدعم ويريد زواج المثليين. والقى بكل قواه لاقرار اعادة تحديد الزواج وفرضه بواسطة قرار قضائي اصدرته المحكمة العليا في الولايات المتحدة.
اما طوني آبوت ، فهو يعارض زواج المثليين واعادة تحديد مفهوم الزواج، وعمل جاهداً ان يتخذ حزب الاحرار موقفا موحداً من هذه القضية والتمسك بمفهوم الزواج على انه بين رجل وامرأة وليس عكس ذلك. وذهب آبوت ابعد من ذلك عندما نزع الصلاحيات من يد النواب والشيوخ واعادها للشعب الاسترالي ليقرر هو نفسه شكل العائلة التي يريد. وفي هذا الموقف تناقض فاضح مع اوباما الذي الغى جميع الصلاحيات لدى النواب ومجلس الشيوخ وارادة الشعب والمؤسسات الدينية وحصرها بيد مجموعة من القضاة لا يعلم احد ميولهم الجنسية واخلاقياتهم واهدافهم الخفية.
وبدا آبوت حيال هذه الموجة العارمة الداعمة لزواج المثليين انه الرجل المحافظ والصلب الذي لا يخشى ردود الفعل على الصعيد الانتخابي، ولا يراعي الضغوطات التي مورست عليه من انصار زواج المثليين.
 القرار العسكري
المسألة الثانية والهامة تتعلق بالوصاية الاميركية على القرار العسكري الاسترالي.. فقد طلب اوباما في  مرحلتين زمنيتين ان ترفع استراليا من وجودها العسكري في العراق. فكان الرد الاسترالي هو ان استراليا موجودة في العراق بطلب من حكومتها الشرعية. فان رغبت هذه الحكومة بالمزيد من المساعدات العسكرية الاسترالية، عليها ان تطلب ذلك. بالطبع فهم اوباما الرد الاسترالي، ولم يكن منشرحاً. فجاء الرد الاولى بتحريك قضية تعاظم قوة الصين العسكرية  في المنطقة وارعاب استراليا من انعكاساته. فرد آبوت باجراء اتفاقية التبادل التجاري الحر معها وبالحصول على تكنولوجيا الغواصات الحديثة من اليابان وليس من الولايات المتحدة.
وتكرّر هذا السيناريو مؤخراً عندما طلب اوباما ان تشارك الطائرات الاسترالية بضرب القواعد العسكرية للدولة الاسلامية في الداخل السوري. فجاء الرد الاسترالي، ان الحكومة تريد تفويضاً شرعياً وقانونياً للقيام بذلك. وقامت جولي بيشوب بزيارة للأمم المتحدة للحصول على هذا التفويض، دون الاكتفاء بالطلب الاميركي.
 الخلاف حول التبدلات المناخية
خلال القمة العشرين في برزبن بدا جلياً ان آبوت يختلف مع اوباما حول اسباب التبدلات المناخية. وبينما ترى الادارة الاميركية انها ناتجة عن الانبعاثات الحرارية، رأت حكومة آبوت انه، في اكثر من حالة وظرف، التبدلات المناخية هي صنيعة ونتاج محاولات التحكّم في المناخ والتلاعب بالتبدلات لاهداف عسكرية. وبدا ذلك عندما نشر مستشار آبوت تعليقاً في وسائل الاعلام حول هذه المسألة.. لذا رفضت حكومة آبوت المساهمة المالية في الصندوق الدولي للمناخ على مدار سنتين، والغى الضريبة على الكربون. وهو يعتقد ان هذه المدفوعات هي غير مبررة ولا تخدم اهدافها.
بالطبع هذا الموقف لم يرق لحزب العمال وخصوصاً لحزب الخضرالذي يدعي الحفاظ على البيئة.. وشنت وسائل الاعلام حملة على آبوت وحكومته متهمة اياهما بنقل استراليا خارج الخريطة العالمية والمجتمع الدولي واعادتها الى العصور الوسطى في سياسة البيئة والمناخ. وهذه شعارات فضفاضة لا قيمة لها سوى التحريض الرخيص.
 اسطول الغواصات الاسترالية
نعلم ان اليابان قدمت تصميم الغواصات الحديثة لاستراليا. واثير محلياً جدل كبير حول من يبني الاسطول الاسترالي؟ وطرحت اسماء واحتمالات عديدة، ولم تكن الولايات المتحدة من ضمنها. فانبرى «خبراء» اميركيون لينتقدوا التقنية اليابانية بحجة ان  طائرات الاستطلاع الجديدة قادرة  على تحديد اماكن تواجدها في البحار وبالتالي توجيه صواريخ لتدميرها. فان صح هذا الادعاء فانه ينطبق على جميع الغواصات المتواجدة في البحار . بالطبع الولايات المتحدة كانت تسعى بطريقة غير مباشرة الى تنفيذ هذا المشروع الذي تقدّر قيمته 40 مليار دولار على اقل تعديل، بالاضافة الى ربط القوات الاسترالية تقنياً بالولايات المتحدة في حال تمكنت من بناء هذه الغواصات.
وقامت مرة اخرى وسائل الاعلام بشن حملة منظمة على آبوت انه لا يريد الاستثمار في استراليا ويفضل ان تستفيد دولة اجنبية من هذه المبالغ الطائلة، في اشارة الى اليابان.
هذه بعض الامور الجوهرية لخلاف آبوت مع الولايات المحدة.
ان من يعتقد ان القرارات السياسية الكبرى يتخذها لاعبون سياسيون صغار ( في الخريطة الدولية) هو مخطئ. فهناك من يتخذ هذه القرارات والصغار ينفذون.
 الاوضاع الداخلية
تسلم آبوت الحكم ضمن ظروف اقتصادية ودولية صعبة. استراليا مديونة، قوارب اللاجئين تصل يومياً الى الشواطئ الاسترالية. تبذير المال العام في الدوائر الحكومية واستغلال نظام الرعاية والخدمات، وتصاعد خطر الارهاب في الداخل والخارج. كلها عناوين كبيرة وخطيرة تتطلب قدرة شخصية وتصميماً على معالجتها . وهذا ما فعله آبوت، شدّد في مكافحة الارهاب، واعاد قوارب طالبي اللجوء رغم تهديدات اندونيسيا واعلن صراحة استحالة دخول استراليا الا بالطرق الشرعية.. كل هذه التدابير هي غير شعبية واثارت ردود سلبية لدى بعض المسلمين.
هكذا وخلال نصف ساعة، اصبح رئيس الوزراء الكاثوليكي في مجتمع انكلوساكسوني خارج اللعبة السياسية، وبشكل مباغت.
وعلينا الآن ان ننتظر الثمن الذي ستدفعه استراليا مقابل وصول مالكولم تيرنبل الى رئاسة الوزراء، وما هي بالتالي التنازلات التي سيقدمها للخارج وارضاءً للنقمة «الشعبية» التي افتعلتها وسائل الاعلام الاسترالية لتبرير الانقلاب على آبوت؟