سمير ناصيف
إحدى الصفات الأساسية التي يختلف فيها المحلل الذي يملك الخبرة السياسية القيادية والقدرة على التحليل الأكاديمي معاً عن نظرائه في هذا الحقل الذين تقتصر خبرتهم على نظرياتهم المبنية بشكل رئيسي على الأبحاث والدراسات من دون الخبرة الميدانية الكافية في العمل السياسي، أن المجموعة الأولى من هؤلاء يقولون الأشياء بأسمائها وكأنهم في منازلة ميدانية مع خصومهم مستخدمين عقلانيتهم وجرأتهم، فيما المجموعة الثانية تخشى اغضاب الجهات المتحكمة في المناصب الأكاديمية والسياسية المقربة من الأنظمة الحاكمة وفي بعض الأحيان تلف وتدور حول ما تبغي قوله.
الكاتب والقائد السياسي الدكتور فواز طرابلسي ينتمي إلى المجموعة الأولى. ويتجلى هذا الأمر في نتاجه الفكري السياسي ـ الاجتماعي والأكاديمي، خصوصاً في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان «زمن اليسار الجديد» الذي يتضمن تحليلاته المعمقة لأحداث مر بها لبنان في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحتى الساعة، ومساهماته في التجارب التي شارك فيها كقيادي في تنظيمين من تنظيمات اليسار الجديد في لبنان والمنطقة هما «لبنان الاشتراكي» و«منظمة العمل الشيوعي في لبنان» حيث كان القائد المؤسس المرادف والمنظّر الفكري الأبرز إلى جانب رئيس المنظمة محسن إبراهيم، الذي كان من كبار القياديين اللبنانيين المتحالفين مع «منظمة التحرير الفلسطينية» في لبنان أبان فترة قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات، إلى جانب تحالفهما مع قائد «الحركة الوطنية اللبنانية» الزعيم الوطني اللبناني الراحل كمال جنبلاط، ومواجهتهما مع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والمشروع الأمريكي الذي قاده وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر والذي سعى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى فرض مشروع هيمنة سورية سياسية على لبنان بدعم مبطن أمريكي ـ إسرائيلي بحجة إنقاذ الأقليات المسيحية في لبنان من هيمنة فلسطينية يسارية.
يصعب على أي مراجع لهذا الكتاب القرار من أين يبدأ في تناول الأحداث والوقائع الهامة الواردة فيه ولربما للمرة الأولى والتي قد لا يجرؤ أي سياسي أو مؤرخ وكاتب ومقاوم لبناني على عرضها باستثناء محللين يرتقي إيمانهم بالحقيقة إلى المجازفة في اتخاذ وتحليل مثل هذه المواقف كفواز طرابلسي.
ففي صفحات الكتاب (181 إلى 185) من الفصل السابع منه، يتحدث طرابلسي عن لقاء جرى في الثاني من حزيران (يونيو) 1976 بين قائد القوات اللبنانية بشير الجميل مع قائد «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الحركة الوطنية اللبنانية» كمال جنبلاط في بيروت في منزل محسن دلول في منطقة الظريف عائشة بكار، لتقديم «تعزية من الجميل إلى جنبلاط باغتيال شقيقته ليندا جنبلاط في محلة بدارو ببيروت الشرقية. أدلى بشير في ذلك اللقاء بمعلومات تبرّئه وحزبه من المسؤولية عن الاغتيال، فطالبه جنبلاط بعدم إعلان أسماء القتلة لأنه ضد الثأر. وكان بشير يؤثر تسوية لبنانية بين الطرفين المتقاتلين ويعارض دخول قوات سورية في نطاق قوات الردع العربية إلى لبنان.
وأبدى بشير استعداده لتبني برنامج الإصلاح الديمقراطي المرحلي لـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وطالب بوقف الهجوم على بكفيا فتعهد جنبلاط بأن يطلب من المقاومة الفلسطينية وقف التقدم على هذا المحور. كما أصر جنبلاط على أن تبقى رئاسة الجمهورية للموارنة المسيحيين عند تطبيق برنامج الإصلاح الديمقراطي. وصرح بشير بأنه يؤيد برنامج الحركة الوطنية ويقبل بالعلمانية الكاملة وهاجم الأغنياء المسيحيين الذين هربوا من الحرب وتركوا الفقراء يقاتلون في فندق الهوليداي إن. ولكن المكتب السياسي الكتائبي انحاز إلى جانب المبادرة السورية في لبنان خلافاً لموقف بشير» (ص 185).
ويشير طرابلسي في الفصل الثامن من الكتاب أن: «اغتيال كمال جنبلاط أتى لمنع تمثيله (الحركة الوطنية) في اجتماع (المجلس الوطني الفلسطيني) بالقاهرة بين 12 و18 آذار (مارس) 1977. وفيما رأت قيادات الحركة الوطنية اللبنانية وحلفائها قيادات المنظمة الفلسطينية أن تلك كانت مناسبة يخطُب فيها كمال جنبلاط أو لا يخطُب أحد، سأل أبو عمار: لماذا لم يحضر جنبلاط؟ ولماذا لم يحضر محسن إبراهيم؟ فقال عباس خلف (أحد قادة الحركة الوطنية) إنه لا بد أن يحضر جنبلاط، فتبرع أبو صالح (من قادة فتح) أن يسافر إلى بيروت ويعود ومعه قائد الحركة الوطنية. واتصل توفيق سلطان بالخارجية المصرية عن طريق عمرو موسى للابلاغ بقدوم جنبلاط فتلقى اعتذاراً عن عدم امكان استقبال جنبلاط بهذه السرعة والمطلوب أن تجرى له ترتيبات أمنية والأفضل تأجيل موعد القدوم، وعاد أبو صالح بلا جنبلاط برغم تصميمه على القدوم. وفي ظهيرة ذاك اليوم 16 آذار (مارس) بلغنا نبأ اغتيال كمال جنبلاط. ما الذي منع جنبلاط من السفر إلى القاهرة في آخر لحظة؟ ومَن الذي ثناه؟ ولماذا تمنّع المصريون عن استقباله؟ هل كان يوجد أمر دولي باغتياله تعرفه القيادة المصرية؟ هذه أسئلة لا أظن أنها لقيت أجوبة إلى الآن» (ص 207 و208).
ويضيف طرابلسي قائلاً: «بعد اغتيال كمال جنبلاط سادت الحركة الوطنية وجمهورها حالة من شد العصب والاستنفار لغريزة البقاء دفعت نحو التماسك والتضامن والمقاومة. وقاد الثنائي جورج حاوي ومحسن إبراهيم الحركة الوطنية واختار وليد جنبلاط إبراهيم ليكون أميناً عاما لمجلسها السياسي المركزي بعد موافقة الحزب الشيوعي، علماً أن وليد ورث زعامة والده في رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي ورئاسة الحركة الوطنية» (ص 209).
ولا يبدو أن طرابلسي كان على وتر موافق كلياً على خيارات إبراهيم بعد مرحلة اغتيال كمال جنبلاط، إذ يبدو أن جنبلاط كان أكثر من قائد للحركة الوطنية بالنسبة إليه بل كان رفيقاً روحياً وفكرياً له ولكثير من أعضاء الحركة الوطنية ومؤيديها ومؤيدي المقاومة الفلسطينية المتحررة من هيمنة الأنظمة العربية الديكتاتورية.
ويشير طرابلسي إلى أن عرضاً كان قد وُجه إلى كمال جنبلاط قبل اغتياله بتأمين اللجوء السياسي له في الخارج وخصوصاً بعد تحركه لمجابهة مشروع الهيمنة السورية في لبنان الموافق عليه أمريكياً والمغضوض الطرف عنه إسرائيلياً (ص 190).وجرى تكرار لهذا الموقف المدعوم من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر، بموافقة إسرائيلية، والذي تواطئت معه دول عربية سعياً لإسقاط الرئيس ياسر عرفات بفعل التدخل العسكري السوري في لبنان (ص 198).
وتُطرح أسئلة حالياً في الساحة اللبنانية ـ السورية عما إذا كانت الدبلوماسية الأمريكية الممارسة في لبنان وسوريا وإسرائيل تشبه مهمة السفير الأمريكي السابق في سوريا ريتشارد مورفي في السبعينيات والثمانينيات، علماً أن مورفي أصبح لاحقاً مسؤولاً عن شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية.
وفي مذكرات هنري كيسنجر يقول طرابلسي، إدعى وزير الخارجية الأمريكي السابق بأنه رأى في الموقف السوري آنذاك أن: «سوريا تريد تقليص النفوذ الشيوعي في لبنان» أي الحجة التي كانت السياسة الأمريكية المجحفة في حق لبنان وفلسطين تستخدمها كلما قامت بخطوة لإحباط الجهات المقاومة لإسرائيل في لبنان وفلسطين ودول عربية أخرى.
والمؤسف أن العالم العربي وشعوبه (حسب موقف طرابلسي) لم يدرك بان إسرائيل كانت وراء قرارات هنري كيسنجر في سوريا ولبنان ومصر وفلسطين. ويقول طرابلسي في هذا المجال: «إن وزير الدفاع الإسرائيلي شمعون بيريز (في سبعينيات القرن الماضي) كان لا يعارض دخول قوات سورية عسكرية إلى لبنان عام 1976 وخصوصاً إذا كان ذلك سيؤدي إلى سقوط ياسر عرفات عن قيادة الشعب الفلسطيني» (ص 186).
ويشير طرابلسي إلى تعايش حدث بين (حركة المحرومين) بقيادة الإمام موسى الصدر في لبنان ومشروع الحركة الوطنية اللبنانية في منتصف سبعينيات القرن الماضي وإلى خلاف مع تلك الحركة عندما يطغي عليها التوجه الشيعي الطائفي من جانب الجهات والطبقات التي حاولت السيطرة عليها اقتصادياً وسياسياً لاحقاً والتي ركزت على ديمومة الامتيازات الطائفية في تناغم مع مجموعات الاستئثار الطائفي لدى أحزاب طائفية مسيحية (ص 171).
ويطرح الكاتب تساؤلات حول مبدأ العلمنة الشاملة في لبنان وصعوبة تحقيقه على الرغم من تأييده له من حيث المبدأ.
كما يطرح أسئلة حول مواقف سوريا في حرب الخليج التي دارت بين العراق والجمهورية الإسلامية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي والتأييد السوري لمواقف إيران، مشيراً إلى أنه التقى مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ووزير خارجيته طارق عزيز ضمن وفود كانت تزور العراق في تلك الحقبة.
ويقول في هذا المجال: في لقاء عقده قياديون في الحركة الوطنية مع الرئيس حافظ الأسد خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، لم تكن خلاله الحركة الوطنية اللبنانية قد اتخذت موقفاً ضد تلك الحرب بسبب الدعم المالي الذي كان يوفره نظام البعث العراقي ثم بحث المواقف التي اتخذها النظام السوري الذي انحاز إلى صف إيران وأدان الحرب.. «من جهتي لم التزم موقف الحركة الوطنية الصامت.. ووصفت تلك الحرب بحرب الخسائر الوطنية. فيما رأى محسن إبراهيم ووليد جنبلاط بأنها نهاية لخلاف الحركة الوطنية مع النظام السوري بعد لقائهما مع الأسد، حتى لا نقول الولاء للأسد.. وذلك يكون بصدور موقف من الحركة الوطنية يدين الحرب العراقية ـ الإيرانية. وصدر مثل هذا البيان في 4 حزيران (يونيو) عشية القصف الإسرائيلي للمدينة الرياضية (1982) حيث مستودعات الذخيرة والطحين التي كان ياسر عرفات يخزنها تحسباً للحرب المتوقعة. وبعد يومين بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982» (ص 244).
لا يمكن وصف موقف طرابلسي في هذا الموضوع بانه غير صريح أو غير جريء، وبالتالي تأتي أهمية هذا الكتاب أنه مستعد لانتقاد حلفائه وخصومه عندما يشعر بلزوم ذلك.
ويتبع موقفه هذا موقف آخر يلخص فيه المؤلف مواقف الرئيس ياسر عرفات وتوقعاته كقائد ميداني مدرك لمجاري الأمور، فيقول في الفصل التاسع: «في الاجتماعات الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة خلال عام 1982 كان أبو عمار يدلي بمعلومات تؤكد اقتراب تنفيذ عملية إسرائيلية على مدى 40 كيلومتراً تصل إلى جنوب صيدا تتلخص بمحاصرة قوات منظمة التحرير الفلسطينية. كان أبو عمار شبه متأكد من أن هذا سيحصل، وعندما بدأ الاجتياح كان يقول إن الاجتياح إذا تجاوز جنوب صيدا، فسيكون هدفه بيروت» (245). ويضيف: «تجاوز التقدم الإسرائيلي صيدا وبدأ أطباق طوق الحصار على بيروت ولم ينفذ بشير الجميل مهمته في اقتحام بيروت الغربية إذ كان يعد العدة لأن يُنتخب رئيساً للجمهورية. وبناء على النصائح الأمريكية، استُدعي إلى واشنطن وأبلغ رسمياً بان الإدارة الأمريكية تعده لتولي رئاسة الجمهورية على ألا يأتي بما ينفر العرب والمسلمين لبنانياً وعربياً من أجل تمرير اتفاقية كامب ديفيد وانجاحها وليبيض صفحته مع إسرائيل من أجل عقد معاهدة صلح معها» (ص 246).
وكان المطلوب منه إسرائيلياً اقتحام الجزء ذي الأغلبية المسلمة من العاصمة مما رفضه لعدم استعداده القبول بالكلفة الباهظة من الخسائر البشرية والسياسية التي سيتكبدها. وعندما رفض ذلك، دفع الثمن.
ومن الأمور الشديدة الأهمية في كتاب طرابلسي تأكيده أنه في بعض الأحيان تطلب أمريكا من حلفائها تنفيذ خطة ما ولكن إذا تعارضت الخطة مع مشيئة قادة إسرائيل، فحلفاء أمريكا يدفعون الثمن غالياً. وربما ما يجري حالياً في غزة يؤكد هيمنة القرار الإسرائيلي على القرار الأمريكي بوجود قياديين أمريكيين على شاكلة هنري كيسنجر ومتابعي مدرسته.فواز طرابلسي: «زمن اليسار الجديد»
دار رياض الريس ـ بيروت 2023
351 صفحة.