الأب البروفسور جورج حبيقة: رسالتنا في سدني هي في طليعة رسالاتنا في القارات الخمس وشبابها يمثّلون لبنان الجديد

إن الدول التي تعاني من إنقسامات حادة على الصعيد الديني والإثني واللغوي لا يمكن للديمقراطية العددية ان تقودها

 

يقوم النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية الآب البروفسور جورج حبيقة بزيارة الى استراليا بدعوة من رئيس دير مار شربل الآب أسعد لحود لترؤس إحتفالات الجمعة العظيمة وزمن القيامة.
والنائب العام حبيقة هو الرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الكسليك، وكان زار استراليا سنة 2015 للمشاركة في المؤتمر الأول للشبيبة المارونية، وحاضر في موضوع الهوية المارونية في مجتمع تعددي.
وعن اليوبيل الخمسين لرعية مار شربل، يقول الأب البروفسور حبيقة «هذا العام هو عام اليوبيل لرعية مار شربل، فأول ذبيحة إلهية احتفل بها مؤسس رسالتنا الآب الراهب بولس زيادة في سدني كانت في ليلة عيد الميلاد سنة 1974».
وعن إنطباعه عن الجالية المارونية يقول الأب حبيقة: «الذي وجدته في استراليا هو ظاهرة مجتمعية ودينية عزّ نظيرها في لبنان والعالم ككل. واستراليا هي البلد الأبعد جغرافياً لكنها الأقرب على صعيد الروحانية والتجذر في التقاليد اللبنانية والعيش على إيقاع لبنان. إنهم مقيمون في استراليا ويعيشون في لبنان.
إن أبرشيتنا المارونية في أستراليا، بقيادة راعيها سيادة المطران أنطوان شربل طربيه، إبن الرهبانية والرئيس الأسبق لرسالتنا في سيدني، تتميز بدرجة عالية من التنظيم والهيكلة والحوكمة والفعالية الرعائية. ولا أغالي البتة إن قلت إنها الأولى في بلدان الاغتراب من حيث نسبة مشاركة المؤمنين والتزامهم الكنسي، لا بل تنافس العديد من أبرشياتنا في الداخل، بفضل منهجية العمل الأبرشي الذي صمّمه وفعّله ونفّذه الصديق العزيز الأسقف أنطوان شربل طربيه. وهنا، علينا ألا ننسى الاهتمام البالغ الذي يوليه لهذه الظاهرة الروحية صاحبُ الغبطة والنيافة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي خصّ كنيستنا هنا بزيارتين متتاليتين.
ورسالة الرهبانية هنا هي الأولى خارج لبنان، على الصعيدين الرعائي والتربوي. إنها في طليعة رسالاتنا في القارات الخمس. والمبدأ الذي يحتم علينا التحرك خارج لبنان إنما هو وجود اللبناني والمسيحي والماروني في بلدان الانتشار. وليس من باب الصدفة أن نحمل لبنان في تسميتنا الرسمية.
ويضيف الأب حبيقة: «رسالتنا هنا هي الأولى من حيث الفعالية والضخامة والممارسة الدينية الإستثنائية لكافة أجيال الجالية اللبنانية، وهي الرسالة الوحيدة في الخارج التي أعطتنا ثمانية رهبان كهنة وُلِدوا ونشأوا في استراليا وذهبوا الى لبنان، وانخرطوا في حياتنا الرهبانية المارونية، وتعلموا اللغتين العربية والسريانية، وهم بالفعل من خيرة دعواتنا الرهبانية، وثلاثة منهم اليوم مسؤولون في الدير ومعهد مار شربل» في سيدني.
ويعتبر الأب حبيقة أن الدير والمعهد والرعية والمأوى يمرون حالياً في مرحلة إستثنائية بقيادة الآب الرئيس الدكتور أسعد لحود الذي يتمتع بمزايا وصفات رهبانية وكهنوتية مميزة، وبرؤية إدارية مبدعة وفعالة. فنحن اليوم بفضله في العهد الذهبي لرسالتنا في استراليا، فهو يتابع ما أسسه السابقون، ــ وهنا نستذكر مساهماتِهم العظيمة والظاهرة ــ، ويطلق مخططات وتصاميم وأفكاراً تجديدية وتفعيلية، ضمن مبدأ التطوير المستدام. والملفت للنظر أيضا في هذا السياق هو المستوى الرهباني والنسكي الرفيع والمدهش لجماعتنا الرهبانية في دير مار شربل في سيدني. إنهم بالفعل خدامُ الخبر السعيد وناشروه بحياتهم وأفعالهم.
والذي أذهلني في هذه الرعية البعد الروحي في حياة الشبيبة. إن التزامهم الكنسي يلقي بك في حضن الذهول. وعندما أدخل الى الكنيسة الساعة التاسعة مساءً أراني امام مشهد ساروفيمي نادر. شبيبة بكافة الأعمار ساجدة في العتمة، ترتل بصوت أخّاذ زياح القربان باللغة الإنكليزية وعلى أنغام مارونية تقليدية، إنه مشهد سرّيالي في الحضارة الحديثة حيث نرى الشبيبة في ضياع خطير، يفتشون عن معنى الوجود في العبثيات أو يلجأون الى الإقامة المؤقتة في الفردوس الوهمي، قبل أن يهبطوا من جديد في أتّون الواقع المفجع. في رعية مار شربل نرى الصورة المعاكسة، إذ يمثل شبابُها لبنانَ الجديد الذي يجمع بمهارة الإيمان العميق والرجاء الصلب الى التفوّق العلمي. انهم يمثلون لبنان البهي الآتي من وراء البحار. لتبيان هذه الحقيقة، يكفي أن أشير إلى الاحتفال المهيب بالجمعة العظيمة الذي كان لي شرف ترؤسه، في حضور كبار المسؤولين في الدولة الأسترالية. أين ترى جماعة مصلية في الجمعة العظيمة بحضورعشرين الف شخص من جميع الأعمار، بدون استثناء ؟ إنه مد بشري هائل. في الآحاد العادية في مار شربل، يؤم حوالي سبعة آلاف مؤمن الكنيسةَ منذ الصباح حتى المساء، في سبعة قداديس متتالية، في اللغة العربية والإنكليزية. وفي أيام الأعياد، ثلاثة أضعاف. كيف لنا أن نفسر هذه الظاهرة الخارقة ؟ إنه قديس عنايا القطب الجاذب. فالسلطة في الرهبانية اليوم، برئاسة قدس الأب العام هادي محفوظ، المشهود له بسعة الاطلاع ومهارة التنظيم والهيكلة، واستقراء الآتي من الأيام، تعمل بجد ونشاط لتحويل رسالتنا في سيدني إلى مركز رهباني محوري وأساسي.
الوضع في لبنان
يقول الأب البروفسور حبيقة: «بعد أبحاث عديدة قمتُ بها حول لبنان وتركيبته الإثنية والدينية، أرى انه بلد نموذج منذ أيام الفينيقيين حتى يومنا هذا. هذه البقعة الجغرافية لم تتغير وبقيت كما هي، بحسب حتميات التاريخ والجغرافيا. فلعنة الجغرافيا التي سلبت لبنان حريته وسيادته على مر الزمن والعصور، لم تقوَ على خنق شعلة الإبداع لدى الشعب اللبناني وروح التمرد على نوائب الدهر. تحت الاحتلالات المتعاقبة، أنتج لبنان الأبجدية وأنقذ بذلك ذاكرة البشرية وصدرها الى أوروبا وغيرها.
وعندما إجتاح الفرس لبنان في القرن السادس قبل الميلاد، أُعجبوا بالشعب الفينيقي العبقري على كل الصعد وبخاصة في مجال صناعة السفن. واللافت ان الفينيقيين لم يفكروا يوما بصناعة السفن الحربية، لأنهم كانوا يهتمون بالتجارة ونقل الثقافة وتحفيز التلاقح الفكري. أما المحتل الفارسي ففرض عليهم تصنيع السفن الحربية وأجبرالشباب اللبناني على الانخراط في الحملة البحرية ضد أثينا لتأديب اليونانيين، لأن الفرس إتهموهم بالتحريض ضد إحتلالهم لآسيا الصغرى، وكانت معركة الماراثون الشهيرة، وبحذاقة اليونان في الحروب البحرية، استطاعوا أن ينزلوا بالأسطول الفارسي هزيمة نكراء. ومنذ ذلك الزمن حتى يومنا الحاضر، لا يزال الفرس يتمسكون بقدرة شبابنا القتالية ويجندونهم في معارك إقليمية متعددة».
وعن النظام اللبناني يقول الأب البروفسور حبيقة: «البعض في لبنان وبسبب الجهل يتهمون الفرنسيين بالصيغة اللبنانبة الحالية القائمة على مبدأ تقاسم السلطة إنطلاقاً من مكونات الشعب اللبناني. والحقيقة ان نظامنا اللبناني هو من بدء الكيان الفينيقي حتى اليوم. فمنذ أيام الفينيقيين كان الحرص على الذاتيات الجغرافية وعلى الفروقات في الحياة ضمن وحدة الشعب. فكان لصور إسلوبها ونمط معيشتها، وكان كذلك الشيءُ عينُه لصيدا، والأمر ذاته بالنسبة لجبيل وجزيرة أرواد وجميع المدن الفينيقية. وما قاله الباحث الفرنسي أرنست رينان في القرن التاسع عشر بالنسبة الى المدينة الدولة عند الفينيقيين، هذا الأمر لم يكن صحيحاً وأثبت عدم دقته عالم الآثار الفرنسي الكسندر موريه Moret الذي اكتشف أن المدينة الفينيقية الساحلية كانت الواجهة البحرية للمملكة الفينيقية التي كانت تمتد من الشاطئ الى عمق الجبل بعرض لبنان الحالي.
وتبلور نظامنا الحالي في النصف الأول من القرن التاسع عشر سنة 1842 مع الخماسية آنذاك في الآستانة وبينهم المستشار النمساوي كليمانس مترنيخ الذي إقترح ان تتمثل الطوائف في النظام السياسي في لبنان، وكان نظام القائمقاميتين المارونية والدرزية.
وسنة 1845، كان لوزير خارجية الدولة العثمانية شكيب أفندي الدور الحاسم في تجذير النظام السياسي اللبناني الحالي وأقر تمثيل الطوائف الست الكبرى في مجالس تساعد القائمقام. وهنا أنوه بالدراسة النفيسة التي وضعها المؤرخ العراقي سيّار الجميل الذي بين فيها كيف أن شكيب أفندي نجح في نقل لبنان من مساحة تتقاتل فيها الطوائف إلى مساحة تتعاضد فيها الطوائف وتحكم معا.
إن هذا النظام في جبل لبنان المبني على مبدأ تقاسم السلطة وإشراك مكونات المجتمع التعددي في تكوين السلطة، سيلقى دعما علميا كبيرا في المنتصف الثاني من القرن العشرين على يد المرجع العالمي في العلوم السياسية بجامعة ييل يونيفرستي Yale University آرند ليبهارت Arend Lijphart الذي أطلق مفهوم الدولة التوافقية Consociational State.
ويقول ليبهارت إن الدول التي تعاني من إنقسامات حادة على الصعيد الديني والإثني واللغوي لا يمكن للديمقراطية العددية ان تقودها. فالديمقراطية العددية فاشلة في إدارة المجتمعات المركبة والمتنوعة. وأعطى مثلاً على ذلك ما حدث في إيرلندا الشمالية حيث كان الكاثوليك أقلية مهمّشة مما دفعهم الى حمل السلاح للدفاع عن حقهم في إدارة دولتهم، فكانت الحرب في إيرلندا التي إمتدت لثلاثة عقود انتهت بتدخل السيناتور الأميركي جورج ميتشل سنة 1998 الذي توصل الى ما يُسمى بإتفاقية الجمعة العظيمة في العاشر من نيسان سنة 1998. ويقول الدستور الجديد بإسناد منصب رئيس الحكومة إلى بروتسطنتي، ومنصب نائب الرئيس إلى كاثوليكي. ويتمتعان بالصلاحيات ذاتها.
الأزمة اللبنانية
وعن الأزمة الحالية التي يمر بها لبنان، يقول الأب البروفسور حبيقة: «الأزمة الحالية خانقة، فمنذ سنة 1969 حتى اليوم فقد لبنان رسمياً سيادته، وعندما وُقّع إتفاق القاهرة بكى الرئيس فؤاد شهاب على لبنان وهو الذي أوصله الى ذروة القوة. وأصبحت الدولة اللبنانية هيئة مجوفة وخاضعة لمكونات إما أجنبية وإما داخلية تتمتع بقوة عسكرية ضاغطة». ويضيف: «في مقاربتي للوضع اللبناني، أنا أنطلق من مبدأ أن علينا أن نوفق بين تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة، بمعنى عندما تقارب أي موضوع فإنك تصاب فوراً بالإحباط والتشاؤم والحزن.
غير أن الانسان يتمتع بإرادة قوية، هي إرادة التغيير والإصلاح. وهنا يكمن تفاؤل الإرادة في عدم الإستسلام للواقع. في هذا السياق، أقيم مقارنة بين صخرة سيسيفوس في الميثولوجيا اليونانية وواقع لبنان المتعثر والأليم.
في الأسطورة، يُقال إن سيسيفوس تجرأ على الآلهة وشيّد قصراً من الخيال على إحدى تلال قورنثية، مما أثار غضب الآلهة، فما كان منهم إلا أن أخذوا قراراً بمعاقبته أشد العقاب، بدفع صخرة كبيرة من قعر وادٍ سحيق الى قمة جبل شاهق. وعندما يقترب من القمة، تفلت منه وتتدحرج الى قعر الوادي. ثم يبدأ من جديد إلى ما لا نهاية. وهكذا في لبنان، كلما إقتربنا من قمة الازدهار والاستقرار والامن والنمو، يُفلت لبنان من أيدينا ويهوي متصدعاً إلى قعر الوادي.
في تحليله لهذه الأسطورة، يقول ألبرت كامو: «إن عدم الإنصياع لهذا القدر المحتم على سيسيفوس وإستهزاءه من هذا المصير المأساوي يشكلان هزيمة نكراء لقصاص الآلهة.
لن ننصاع لهذا القدر المأساوي، مهما اشتد وعنف، وسنرفضه بقوة وسنهزأ به، وسنوصل صخرة لبنان عاجلاً أم آجلاً الى قمة الإزدهار والاستقرار والنمو».
فالوضع في لبنان ليس إلى تراجع، بعكس كل ما يُقال في الإعلام. علينا أن نميز بين الدولة اللبنانية المتهالكة والوطن اللبناني الصلب والمنيع. الفراغ الرئاسي المرحلي هو الذي يسبب عدم إنتظام إدارات الدولة والمسؤولين فيها. عندما يعالج هذا الموضوع، يتم فورا العمل على ملء المناصب الشاغرة.
بالنسبة الى الهجرة فهي ليست حكراً على المسيحيين بل تطال جميع الطوائف.
والهجرة اليوم لم تعد سلخا عن لبنان وانقطاعا نهائيا عنه. بفضل التكنولوجيا وتطورها المذهل، سقطت المسافات والحدود. نحن نعيش الآن في قرية كونية. باتت الدول أحياء في هذه القرية. من هنا، فالهجرة اللبنانية الحالية لم ولن تشكل خللاً للكيان اللبناني، بل هي مصدر قوة لإستمرارية لبنان.