بقلم أنطوان القزي
لستُ ناقداً في حضرة من سقى المدادَ عطرُ يراعه. ولستُ منقّباً أفتّش عن درٍّ يزيدُ فتوني، ولا عن بيتٍ أحفظُه عن ظهرِ قلب ولا عن قلادةٍ طيّ قصيدة.
بل أجدُني مع بدوي الحاج يراعةَ ليلٍ تحاولُ اللحاقَ بسربِ أقباس، أسرجُ الأقاحَ أكمامَ غمام، وأعلّق ضفائرَ الضوءِ غلالاتٍ تستبيحُ رموش النسائم.
وجدتُني أدركُ شراعاً أودعَهُ بدوي الحاج بردةً لساريةْ ترسمُ دربَ الهزارات، وألمسُ غمامة تدرّ نجيعَ ضفافه، وسحابة توافي ينابيعَه السكرَى.
لم اقتصّ عبارةً من قصيدة، ولا فكرةً من سياق، ولا جدارية من رسومه البهية، بل تصفّحتُ الديوان من شرودِ الكلماتِ إلى أعمق المواجد، من نعاسِ الشفَق إلى تثاؤبِ الهزيع، من الغربة إلى شرفات البيوت العتيقة، ووجدتني أطوي صفحاتِه وأعترف: «لا استطيع ان اختارَ او أعلّقَ او الفتَ النظر»!.
وجدتُني اقول « أنا لم أكن أنا»، وبدوي الحاج هو الأنا وال نحن وال أنتم. شاعر الفروسية كيفما قلّبته، شاعر النزال من اين أتيته، وشاعر الدهشة كيفا قرأته.
ألِجُ ديوانه من نافذة قصيدته الاولى «ماذا لو» ليقلّني في قاطرة الشغف وهو يلتحف عراءَ الضوء ويتوسّدُ جَنحَ فراشة، ليطلَّ أميراً من شبّاكِ سندريلّا، يحجزُ النسيم على نافذتها كي لا يقطع عليها سباتَها. فهو لن يراقصَها «حتى لا يسقطَ حذاؤها”.
أعياني اللهاثُ دون العبور إلى القصيدة الثانية.. وكلّلي إبهارُه الأسطعُ من نجمِ الباسيفيك.
ما أجملَك يا بدوي وانتَ عائدٌ «مع الورق ، مع الريح ومع نجمة الصبح» تعلّق الغربة على شجرةِ اللوز وتبسطُ المسافة في حديقةِ منزلك الخلفية.. ما ابدعَ سنونواتك ترسم ظلالاً لأناسٍ «يتثاءبون ويرحلون”.
ايها الملكُ األأبيض ، فأنت لستَ «خبير ملح ولا حارس هدير»، أنت « صيادٌ غمَرَه المدُّ ليأخذَه النعاسُ متى شاء”
دعني يا صديقي أفيءُ إلى هيولاك، إلى الساحرةِ الساكنةِ فيك، تلك القصيدة تتقمّصُها فعلَ حبٍّ ووجعَ شوقٍ وانتظار.
دعني أغرسُ شتولي على مفارقِ نَداكَ الرياّن، «أتدلّى معك من رَحم زنبقةٍ رمضاء ، أدوسُ خيوطَ الماء وأغفو على خدِّ قنديل”!.
لا تسلني ان أضيءَ سراجاً في ليلِ نجومِك المذنَّبة.. ولا أن أسرقَ برعماً من خميلك الفردوسي.
لن أكملَ سبرَ قوافيك، حتى لا اسرقَ اكثر من دررِك، وحتى لا انزفَ اكثر من نجيعِ هيامي على ضفافك.
تعبرُ عينايَ في ساقيةِ العطر امامَ شاعرٍ شاعر، « لا يموتُ غرقاً في فمِ سمكةٍ أو جائعاً على باب قصر، أو مريضاً على باب مستشفى او ناسكاً على بابِ كنيسة، لأنه سيبقى فارساً لا يأبه ونبيلاً لا يغالي وعاشقاً لا يتردّد..
تتوالدُ حكايتي مع نبضِ قوافيه، وترفل مواسمي أعياداً على موائدِه.
وبين لبنانَ وفلسطين يُخلي بدوي الحاج ساحته للتاريخ الذي أضاع بوصلة الشرقِ وأحرق سنابلَ قومه.
مقدامٌ غيرَ هيّاب يسقي جراحَ القصيدة من ندى سيفه الريّان، ويشقُّ بعَصاه مسامَ القريحة.
بدوي الحاج شاعرُ الفروسية ونقطة على السطر.