أسعد الخوري

«أنا لم أكن أنا» ديوان جديد للشاعر المهجري المهندس بدوي الحاج. هو الديوان الخامس له والأكثر شاعريةً وعاطفةً ونضجًا. هو عصافير تغرّد. لأن «العصافير التي لا تغرّد تموت»!.
يقول شاعرنا: «أنا ما زلتُ أسرقُ كل جمال الكون من زوايا عينيكِ»… . صورة شاعرية شديدة التعبير… يرسم الأشجار والبيوت، يرسم محبة الناس، يرسم خرائط العالم، يرسم المستقبل بأصابع لا ترتجف.

«عائدون: لم نأتِ لنبقى. فقد أعيانا الانتظار ونحن نراقب ولادة الجداول، وكأن الشتاء صديقنا الأبدي».

عائدون. كل مهاجر يتمنّى أن يعود إلى وطنه وأرضه، يزرع ما يشاء من «أحلام وآمال»… ، يزرع البسمة في ثغره أولاً، وفي نفوس الأهل والآخرين والمحيطين وكل العاطلين عن عملٍ، أو مهنة، أو صنعة… كل الذين ينظمون قصائد ويشربون قهوة الصباح، ويقرأون جريدة الصباح مع بزوغ الفجر الأحمر.

عائدون!

يقول بدوي الحاج في قصيدته «ظلال غربة» الصفحة 12:
ماذا يريد هؤلاء القوم؟! يعودون باستمرار ليتفقدوا شجرة اللوز التي أزهرت / في الحقلِ، خلفَ البيتِ الحزين… / ليتفقدوا داليةَ العِنَب / التي أحنت ظهرها السُّنون / يعودون من سفرهم الطويل… /
هكذا تصبح (العودة) قصيدة في البال… على لسان كل مهاجر… تصبح العودة حَنينًا كالسراب… دفينًا، كما يقول الشاعر بدوي الحاج.

بيروت

أنا بيروتُ… أتذكُرُني؟ / خذني إلى هُناك كل مساء / فأفيقُ من سفري، حيث يكونُ ترابٌ، حيث يكون زَهر، حيث يكون ماء… (من قصيدة «هنا بيروت»).

هكذا يعشقون بيروت. يذكرون عاصمة بلادهم ولو مدمّرة. ولو دمّرها انفجار مرفئها العظيم. تبقى بيروت لؤلؤة المتوسط. لؤلؤة البحر الساهر. لؤلؤة شرق لا ينام. لؤلؤة شرق لا يعترف إلّا بها»… إلّا بـ (بيروت) صبيةً جذّابة مشرقة، تشرّع أبوابها لـ (الغرباء) محبّين، وكارهين!».

في الرحيل عن بيروت، في الرحيل عن تراب الوطن يقول الشاعر: «الرحيل يحتاج إلى حقيبة لا أكثر… نملأها بتراب طفولةٍ شرسة، لم تُدمل جراحُها، من ملاعب كانت تستيقظ، باكرًا، على فرحنا وصراخنا وضجيج أهدافنا، وكأن الكون ملكُنا ولا شريك لنا فيه».

لكن الشاعر يشترط على مَن يرحل أو يهاجر أو يترك داره وزهوره ومصطبته:
«قبل الرحيل، خُذّ كمشة من الحبقِ الصيفي، خذ منديل أمّكَ وخُصلاً بيضاءَ من شعرها، وأحشر حقيبتك بكلِّ جميل… قد تعود يومًا، وقد لا تعود!».

ببساطة، هناك هاجس يستوطن إيمان الشاعر بدوي الحاج، هو العودة أو البقاء. يخشى أن لا يعود الناس إلى بيوتهم، إلى قراهم، إلى أهلهم الذين «يحنّون» صباحَ مساء، ينتظرون عودة مَن هاجروا (نجحوا أم فشلوا لا فرق).

«كمشةُ من الحبقِ الصيفي»، أو «منديل أمّك». ضعْ هذا كلّه في حقيبتك ليبقى كل هذا إلى الأبد في قلبك، في منزلك. في حديثك. في رؤيتك وفي منامك!

هي صورة رائعة، لحنين مهاجر، صورة لحنينٍ لا يتوقف. يبقى حنينًا في القلب والنفس. أعادَ المهاجر أم بقي في بلادٍ بعيدة!

إيحاءات

الأرض: هي أمي، تحتضنني وأنام على صدرها.
الأرض تملِكُني ولا أملكُها – (ص 81).

صورة حقيقية وواقعية للأرض. أرض الوطن. أرضنا في القرية. أرضنا وأرض جارنا. زيتون القرية، ليمونها، وكل أزهارها. نماذج عن الأرض التي «تملك الإنسان». تملكُ إرادته، تملك حبّه… الأرض حبّ كبير لا يوصف!
الجسد

«فاكهة الليل وخطيئة النهار. الجسد يخافُ مُرور الوقت» – (ص 82).
في كلامه على الجسد يبلغ الشاعر بدوي الحاج ذروة شعرية شاهقة كونه جعلنا نرى صورة الواقع تتماوج فوق مرآة الخيال، «فالجسد فاكهة الليل وخطيئة النهار» يخشى مع مرور الوقت أن يترهل. وهكذا يتحول الزمن عدوًا للجسد.

طفلٌ فلسطيني

كتب الشاعر بدوي الحاج قصيدته «طفل فلسطيني» – (ص 28)، قبل العدوان الإسرائيلي على غزّة وتدميرها:
سبعون عامًا ولم يأتِ الرّبيع / سبعون عامًا وشبابيكنا ثورة / أبوابنا ثورة / وكل أغنية لَحْنُها ثورة… / الدارُ دارنا / والأرض أرضنا / وأنتم كما أنتم / متطفلون غاصبون… /
ويتابع في مكان آخر من القصيدة:
أنا طفل فلسطيني / أنا موسمُ الخير المُنتظر / أنا النهرُ / أنا الزَّهرُ / أنا زخّات المطر… / أنا طفل عربيّ / مسلوب الأرض والقمح والفجر… / بندقيتي مِقلاعٌ / فِراشي مَرْجٌ / وسادتي حذاءٌ وحَجَر .

هذا مصير الطفل الفلسطيني؟! أطفال غزّة في فلسطين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية. أين ضمير حكام العالم؟

هو الخريف «يسرقُ الضوء من عيون الصيف / يفكّ أزرار المطر!» كما يقول الشاعر.