د. نجمة خلبل حبيب- سدني

فيﻫﺬا اﻟﺠﺒﻞ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ داﺧﻠﻴﺔ ﻻ ﺗﻨﻘﻄﻊ أﺑﺪًا، ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ﺑﻌﻴﺪة اﻟﻘﺮار، ﻋﺬﺑﺔ اﻟﻬﻴﻨﻤﺔ. ﻓﻤﻦ غابة توشوش وتهمهمم، إلى واد ٍﻳترﻧﱠﻢ، وﻣﻦ ﻧﻬﺮﻳﺜﺮﺛﺮ، إلى ﻛﻬﻮف ﻧﺎﻃﻘﺔ ﻛﺎﻟﺒﺒﻐﺎء، أﻧﻐﺎم أﺟﺮاس ﻛﺒرية وﺻﻐرية. . . رﻧﱠﺎت ﺗﺤﻴﺎ وﺗﻤﻮت روﻳﺪًا روﻳﺪًا، ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ آﺑﺪة ﻟﻬﺎ ﻃﻌﻤﻬﺎ وﻟﻮﻧﻬﺎ، ﻻ ﺗﻄﻔﺮ ﻋلى اﻟﺬرى ﺣﺘﻰ ﺗﻬﺒﻂ إلى اﻷودﻳﺔ، ﻓﺘﺘﻐﻠﻐﻞ في ﺛﻨﺎﻳﺎﻫﺎ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ إلى اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ. (مارون عبود)
* * * * *
أخالني مقبلة على مخاطرة كبيرة وأنا أنتقي ديواناً مكتوباً باللغة العامية ولشاعر على درجة عالية من الإبداع كفؤاد نعمان الخوري. والحق يقال أن إبداعية الخوري فرضت نفسها عليّ وجعلتني أتراجع عن موقف كنت اتخذته أيام المراهقة الثقافية المحدودة النظر، يرى في الجنوح إلى اللّغة المحلية نزعة إقليمية هدامة تسعى الى بعثرتنا ليسهل على الكولونيالية الغربية تمزيقنا ثقافياً وجغرافياً يضيع معه حلم وحدتن
العربية، ويضيع معه حلم استرجاع فلسطين. وإذ أقول مخاطرة، فلأن قصائد خوري مشغولة بدقة وعناية وعلى نفس الدرجة من المستوى البلاغي والموضوعي يصعب معه اختيار قصيدة دون أخرى للمعالجة البحثية. إلا أن إحساسي بواجب الكشف عما غفلت عنه الدراسات من مخزوننا الأدبي شدني لهذا النوع من الشعر لأن فيه من الجماليات الفنية والمواضيع الحياتية ما يساوي إن لم يكن ليزيد على الكثير من الدواوين المكتوبة باللغة الفصحى لشعراء مُجلّين. وعلى عكس الشعر العربي الفصيح الذي كان يعلو ويهبط بين فترة تاريخية وأخرى، حافظ الشعر العامّي على استمراريته، وثبات مواضيعه، اللهم إلا ما نراه عند الشعراء المهجريّن الذين تكثر النستولوجيا في أدبهم نتيجة ابتعادهم عن بلدهم الأم وتركهم لما خلّفوه وراءهم من أهل وأحباب وأصدقاء. ولنا في أستراليا ثلة من هؤلاء المبدعين أتخذت منهم في هذه الدراسة الديوان الأخير “قوس قزح إسوارتك” للشاعر فؤاد نعمان الخوري أنموذجاً. وقبل البدء في تقديم هذا الديوان، فلا بد من لمحة تاريخية تحكي عن نشأة هذا الفن وتطوره عبر القرون.

يفيدنا مارون عبود في كتابه “الشعر العامي اللبناني”، أنّ أول قوّال في هذا اللون من الشعر هو المطران ﺟبراﻳﻞ ﺑﻦ اﻟﻘﻼﻋﻲاﻟﻠﺤﻔﺪي الذي عاش في القرن الخامس عشر وحُفِظَتْ بعض آثاره في مكتبة الفاتيكان ومنها يستدل أن ﱠ اﻟﺰﺟﻞ ﺑﺪأ ﺑﺴﻴﻄًﺎ ﺳﺎذﺟًﺎ. وﻗﺪﺑﻠﻐﺖ رﺳﺎﺋﻠﻪ وﻗﺼﺎﺋﺪه اﻟﻨﻀﺎﻟﻴﺔ اﻟﺨﻤﺴﻤﺎﺋﺔ، وﻫﻲ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ وﻣﻨﻈﻮﻣﺔفي ﻣﻮاﺿﻴﻊ دﻳﻨﻴﺔ ﻗﻮﻣﻴﺔ إﺻﻼﺣﻴﺔ. أما تاريخه فلم يصلنا من قديمه إلا القليل، وأقربهم إلى عصرنا مقدمة أمين نخلة لديوان أبيه، رﺷﻴﺪ ﺑﻚ ﻧﺨﻠﺔ، ثم ﻇﻬﺮ ﻛﺘﺎب ﻧﻔﻴﺲ للأﺳﺘﺎذ ﻣتري وﻫﻴﺒﺔاﻟﺨﺎزﻧﻲ اﻟﻐﺴﺎﻧﻲ ﺿﻢ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺰﺟﻞ وأدﺑﻪ وأﻋﻼﻣﻪ ﻗﺪﻳﻤًﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ، وكان سرﻳﺎﻧﻲ ﱞ اﻟﻠﺤﻦ في أول ﻋﻬﺪه، وﻋﺮﺑﻴﱡﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ. أما في أيامنا الحاضرة فقد تنامت فرق القوالين في لبنان وجزء من سورية، وبلغت أوجها عام 1975 قبل نشوب الحرب الأهلية حيث نظمت مباراة أخيرة لإمارة الزجل اللبناني في مدينة كميل شمعون الرياضية حضرها أكثر من مئة ألف مشاهد ومشاهدة، وفاز فيها بالتسوية شاعرا الزجل الكبيران محمد المصطفى وجوزيف الهاشم الملقب بزغلول الدامور. وإن دلّت هذه الأرقام على شيء فإنما تدل على شعبية اللهجة المحكية. وهذا ما يفسر سبب إقبال مشاهير هذه الأيام على استخدامها. ليس لأن الفصحى لغة صعبة، بل لأن عقل الإنسان العادي عقل كسول يفضل الأخذ بالسهل الذي لا يتطلب جهداً لأنه بالغريزة يعادي كل ما يخلخل ما ترتب في عالمه المألوف. ففكرة جديدة لا تتطابق مع المعتقدات التي ألفها تعني اعادة ترتيب عقله، وهذه عملية شاقة تتطلب جهداَ ذهنياً مضنياً.
* * * * *
يَعْـتَـبِر الشاعر فؤاد نعمان الخوري ديوانه “قوس القدح إسوارتك” أنضج كتبه وأحبهم إلى قلبه، وهو عنده الطفل المدلل الذي يصطفيه الوالدان دون بقية أبنائهما لغير ما سبب واضح.وهو يتألف من أربعة أجزاء:
1. “قوس القدح إسوارتك”
2. “جبال الثلج”
3. “أربع كراسي قش”
4. “كورونيات”.
تتراوح مواضيعها بين المناسبات الاجتماعية والوطنية والتغني بجماليات الطبيعة والغزل وشيء من المدح والوصف. وحيث أّنّلعتبات الكتاب الرئيسية – من غلاف وعنوان وإهداء- قيمة خاصة في المقاربات السيميولوجية باعتبارها المفاتيح الأولية والأساسية التي يجب على الدارس أن يحسن قراءتها وتأويلها والتعامل معها، فإنه لا بد لنا من وقفة إزاءها. تتآلف عتبات هذا الديوان لتكمل واحدتها الأخرى. فالعنوان يتصدر الصفحة بخط عريض أسود، بينما تنتشر في نهايتها وعلى امتداد الصفحة معالم مدينة بيروت: وفي أسفلها مساحة سوداء يظهر فيها اسم المؤلف بالخط الأبيض العريض. وفي ما بين الاثنين مساحة لسماء بلون أزرق صافٍ تتخلله غيوم بيضاء وقوس قزح بألوانٍ زاهية. وهكذا يرى المتلقي نفسه يدخل إلى الكتاب بجو متفائل يشيع البهجة. ثم يأتي الإهداء ليكمل هذا التفاؤل: “قالتلي القصيدة/ بيروت الشهيدة/ رح ترجع جديدة وسعيدة. أما العنوان “قوس القدح إسوارتك” فهو مسك هذا التفاؤل، فبحضور الإسوارة يحضر الفرح، وبحضور قوس القزح تحضر البشارة بيوم مشرق جميل.
* * * * *
وإذ نبدأ فبالقصيدة الأولى “قوس القدح إسوارتك” التي يهديها الشاعر إلى أمه. وفيها مهّد لموضوعه بصورة شعرية تتصف بالجدة والإبداع؛ فهو لم يقف متباكياً على غزو البياض لمفرقيه، ولا على انفضاض الحسناوات من حوله كما هي الحال في شعريات منتصف العمر، بل وقف محاسباً ذاته وإدانتها لتخاذله وموقفه العبثي من الوجود. وتكمن براعة الشاعر في استخدام ضمير الغائب لقول فكرته، فضمير الغائب، كما هو معروف،أضعف الضمائر في الحضور، وأكثرها جنوحاً صوب الغيابالذي من خصائصه كتابة الهامش ليضئ العمق، وتَصَنُّع الصوت الخفيض ليقول الرؤية المتوهجة. كما أنه في استعانته بالرمز المبتكر- الوقوف على تلة العمر- حقق لنصه صفة الأصالة والتفرد:

واقف ع تلة عمرك
وخايف  من النزلة
شو في ب أمرك
غير اسمك
والعشب ع سطيحة العزلة
وباقة وراق
كم بنفسجة
ب جنينة العشاق

بعد هذه المقدمة الوجدانية يقفز الشاعر فجأة إلى لب موضوعه، فيتجه إلى مخاطب مضمر آمراً إياه أن يكاغي أمه، أي أن يتودد إليها (يدللها) بمثل ما نتودد لطفل في الأشهر الأولى من عمره. “كاغيلها!”.
ترى ما هي الرسالة التي أراد الشاعر بثها من وراء الطلب منّا مناجاة امهاتنا بلغة الأطفال؟ ألأن الطفولة هي رمز البراءة؟ أولأن من حق أمهاتنا علينا أن ندللها كما دللتنا ونحن رُضّع؟ أو ليؤكد ما ينسب إلى الأم من كونها سيدة العطاء اللامتناهي عندما يتعلق الموضوع بأبنائها؟ نعم! هي كل هذا وأكثر، هي “حمامة محممة” وبَرَكة القمح، وقداس الرغيف، وقلبها متل قوس القدح كثير الألوان فيه الفرح والبكاء والغضب والعتب والحزن على البلاد المحروقة:

كاغيلها!
أمك حمامة محمّمهْ
بالضو ودموع الغياب
قلاّ اْشرقي وتبسمي
تا ينسحب جيش الضباب
يا ملتمه
بالياسمين
بالمحرمة المقلمة
طلي امسحي ليلي الحزين
. . . . .
غنيلها
ولف الحبيبة بألف آه
خلّي الصدى ياخد مداه
بشعرها ويسرّحو
وبقلبها ويفرّحو
. . . . .
يا هالعروس العالية
وأقرب من النبض الخفيف
يا بركة القمح
ويا قداس الرغيف
من فرحتك زهر بهالارض السلام
. . . .

رغم أن الشاعر بدأ مناجاة أمه بصيغة الأمر وبالتوجه إلى ضمير المخاطب وكلا الأمرين يفيدان المباشرة (الأمر والوعظ  والإرشاد)،غير أن هذا الأمر لم يتعد عتبة القصيدة، أما جسدها فيأتي في ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺸﻌﺮ الوجداني المعاصر ﺣﻜﺎﻳﺔً وﺳﻴﺎﻗًﺎ، وﺣﻼوة ﺗﻌﺒير:

يا غالية صوتي نغم كنارتك
تاجك التلج
وخاتمك شمس الخريف
قوس القدح إسوارتك

قد تكون القصائد التي خصصها الشاعر للأم في ديوانه هذا، معدودة، ولكنّها حاضرة كرمز أو كناية أو حكمة في أكثر من قصيدة. نذكر منها “ورق أيلول” التي يمكن أن تُدْرَجَ تحت بند وصف الطبيعة لولا أنها انتهت بحكمة تنهي الأبناء عن جحد أمهاتهم:

أصفر ورق أيلول من همو:
دشّر البيت وما حدا لمّو!
وقالت النسمة للدرب بالسر
ما اصفر لولا ما ترك إمّو…

يربكنا فؤاد نعمان الخوري، يخرق المتبع، يختط لنصوصهمنهجاً قل أن اتبعه أحد قبله، فقصائده لا تقرأ من عناوينها، ولا يمكننا تنبؤ عجز بيت الشعر من صدره كما هي الحال في الكثير من القصائد. علينا أن نستسلم للقصيدة لتقودنا إلى غايتها. ففي قصيدته “تجلّي” مثلاً، لا ينكشف صاحب الشخصيةالمقصودة إلا في المقطع الأخير منها، وهذا الإبهام لا يضير القصيدة، بل يزيد من جماليتها لأن عنصر المفاجأة يُشْعِل صدمةً فَرِحةً في ذهن المتلقي:

​“تجلي”
طالع ع ضيعة غيمتو
من نبعها ملّي
​ومنشان ينصب خيمتو
قلبي أنا تله
وحضني أنا سلة
لما يطل من العلا
ويرش حبات الحلا
من شجرة الطلة

من خلف برداية برد
صوتو عم يقلّي
خليك في عيد الورد
ورده عم تصلّي
. . . . .
لم يقل لنا فؤاد مباشرة من هو هذا الشخص بل قاله رمزاً، وترك لنا متعة الاكتشاف، ولم يأخذنا كثير تفكير لنكتشف أنه الأب الذي ينتظر ابنه كي يحمل عنه بعض أعباء الحياة:

​​وما في حدا يشقل معي
تا أنقل محليّ
يا كلمتي لْ عندو اْطلعي
وبْ خَيمتو تجلّي

يخصص فؤاد نعمان الخوري قسماً كبيراً من ديوانه للقرية اللبنانيّة، ولعل أجملها ما قاله في بلدته بِحْوَيْتا، وفيها يرسم بريشة فنان بارع ساعة الغروب. غروب يختلف عما ألفناه في الكتب المدرسية وأغاني الرعاة الحزينة وريشات الفنانين التشكيليين حيث تكون الشمس صفراء غاطسة حتى نصفها في سماء حمراء متوهجة، أما غروب بحويتا الواقعة في منطقة جبلية شاهقة مكللة بالثلج فهو أبيض كفستان العروس، ويرسم قلوباً على الثلج:

“مسا بحويتا”
شمس الغروب المايلة
عَ التلج ترسم قلوب
وإيدين شجرة نازله
تلملم دهبها عَ لدروب …
عالسطح قوس المحدلِه
يقّلو: يا ابيض ، لا تدوب!
ناطر عروس مكلّـلِـه
تفلش الطرحه ع الغروبْ!

لم يترك فؤاد نعمان الخوري موضوعاً أو حدثاً اجتماعياً أو وطنياً أو دينياً في لبنان أو في أستراليا إلّلا وله فيه قول. لم يترك مقاماً دينياً أو قديساً/ة أو صاحب/ة كرامات إلا وخصهم/هن بعطفه. نذكر منها قصيدته “عينين مارينا”. ومارينا قديسة لبنانية من بلدة القلمون. جاء بها والدها بعد وفاة زوجته لتعيش معه في دير قنوبين المخصص للرهبان الذكور، فألبسها زي الرجال،وأعطاها اسم مارينوس، اتهمت بالزنى وظلت صامته لا تدافع عن نفسها بكشف سرها حتى مماتها.
وقصيدة “عينين مارينا” حافلة بالرموز من مبتدئها إلى منتهاها، فهما واسعتان جميلتان، متل أوّل شتي حلوين/ متل شرشف العيد/
أو يمكن جرار النبيدْ
من عرس قانا
طرطشو عليها
* * * * *
خصّ الشاعر فصلاً كاملاً لجائحة الكورونا وصف فيه ما أحدثه هذا البلاء في نفوس الناس من تخوفات وهواجس وعزلة كان ضررها النفسي لا يقل شراً عن ضررها الصحي. يكفي أن نذكر عناوينها حتى ندرك شرورها: “كورونيات”، “حبس”، “وجع”،”دفن بالجملة”….

قصيدة دفن بالجملة
لا دمع، لا قوّالْ،
لا زهر عا التابُوتْ؛
خندق صفوفو طوالْ،
وبيوت لزق بيوتْ…
يوصلهن العتالْ،
ويهرب قبل ما يمُوتْ!

هدفت هذه الدراسة إلى إبراز جماليات اللهجة المحكية اللبنانية في الشعر العربي، ويعود سبب انتقائي ديوان “قوس القدح إسوارتك”، للرؤية التفاؤلية التي تعمّه، ولما يتضمنه من جماليات شعرية خلاقة، ولاختيار الشاعر اللبق لمفرداته، تبدو كأنها مسبوكة بيدي فنان ماهر.
بقي أن نقول، أن هذه المقالة المتواضعة لم تقل إلا النذر اليسر من مضامين هذا الديوان. ويا حبذا لو حفّزت نقاداً آخرين لاستكمال ما غفلت عنه دراستنا.