أسعد الخوري

لم يستطع لبنان، حتى الآن، وضع نهاية للحروب الداخلية والخارجية، التي تدور على ساحاته، بالأصالة حينًا وبالوكالة أحيانًا، والتي ما تزال عواملها الداخلية والإقليمية والدولية قائمة. من هنا تقوم بين السياسيين اللبنانيين جولات من العنف الكلامي على خلفيات سياسية وطائفية، فيما البلاد ترزح تحت وطأة العجز والخوف والانهيار الاقتصادي… والهجرة!
أنهم «ملوك الطوائف» في لبنان، يسيطرون على كل شاردة وواردة دون ان يرفّ لهم جفن أو تخجل لهم يدٌ، تمتدّ الى المال العام لتنهب كل ما تستطيع. لقد حوّلوا الوطن الى جثّة مرميّة على قارعة طريق الاستدانة والعجز والخوف من المستقبل… أفلسوا لبنان واليوم هم أنفسهم وكلاء التفليسة!
هم يتقاسمون ما تبقى من هذه الجمهورية البائسة التي سئم شعبها المسكين (والمستكين مع الأسف)، من حكم المحاصصة وتقاسم النفوذ والثروات على حسابه. انه الفساد يضرب كل شيء بوقاحة لا مثيل لها. فمن يستطيع أن يضع حدًا لنفوذ «ملوك الطوائف» واستئصال «الفساد الكبير»؟!

طوائف أكبر من الدولة
إن النظام الطائفي مالَ بصورة عامة نحو السيطرة داخل الطوائف المختلفة، وحفّز على التطرف في الخطاب السياسي والثقافي ذي النزعة الطائفية، وشجّع تبعية الطوائف لمرجعيات خارجية إعتقادًا منه بأن هذه المرجعيات توفّر الضمانات اللازمة لها. لكن لا يختلف أثنان على أن لتلك المرجعيات حساباتها ومصالحها الخاصة. وعبر هذه الآليات بات الدور السياسي للطوائف يتجاوز عمليًا دور الدولة نفسها، فاتجه النظام السياسي في لبنان نحو إنتاج رعايا وسماسرة طوائف وعصبيات متفلّتة، على حساب إنتاج المواطنة القائمة على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.
لقد أثبتت التجربة التاريخية بوضوح أن هذا النسق من إدارة الدولة والشأن العام غير قابل للاستقرار. فقد خَبِرَ الوطن الصغير على امتداد تاريخه صيغًا وأنساقًا متعددة للنظام الطائفي، الذي تعاقب أطراف متغيّرون على الاضطلاع بالدور المهيمن فيه، ممنّنين النفس في خطابهم السياسي بالقدرة على بناء الدولة العصرية والعادلة، ولكن من دون التمكّن من تجسيد هذه المراهنة على أرض الواقع. أوصلت هذه الصيغ المختلفة، وما بُنِيَ عليها من تحالفات بين الزعامات الطائفية المختلفة، أوصلت البلاد الى حالٍ من التفكك والانحلال، وإرهاقه في الديون بما يتجاوز قدراته الاقتصادية.
أولى هذه الصيغ تمثّل في ما سمّي «المارونية السياسية» خلال الفترة التي سبقت إندلاع الحرب الأهلية. وتلتها بعد اتفاق الطائف صيغة هجينة وغير مستقرّة من تحالف قسري بين «شيعية سياسية» ناشئة و»سنّية سياسية» كانت تطمح دومًا للانتقال من موقع الشريك الثاني الى موقع الشريك الأول في صيرورة الهيمنة الطائفية. استمرّ هذا التحالف القسري الفجّ – الذي انطوى على نوعٍ من تقسيم العمل السياسي والأمني والاقتصادي بين هاتين العصبيتين – نحو عقد من الزمن مدعومًا ومحتضنًا بتوازنات إقليمية ودولية تحت رعايةٍ ووصايةٍ سورية. ثم انتهت الى السقوط العظيم بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005، بفترة زمنية لم تتجاوز العام الواحد.
إن المسألة الأكثر إلحاحًا في مواجهة أخطار انحلال الدولة وتشرذم المجتمع، تتمثّل في إعادة تأسيس الدولة المدنية ووظائفها الأساسية المختلفة، بالاستناد الى كتلة اجتماعية، سياسية، ثقافية خارقة وعابرة للطوائف، تتجاوز معالم الانقسام المجتمعي الحالي، وتعمل على إعادة تحديد أسس العلاقة التي يجب أن تربط الطوائف بالدولة اللبنانية.
كما أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال تخفيف الاحتقان اللبناني والصراع الشرس على السلطة المركزية كما هي حالنا اليوم، إلا باعتماد أشكال واسعة من اللامركزية. فلا يمكن لسلطة مركزية قوية أن تقوم في بلدٍ قويت فيه الى هذا المستوى الجماعات الطائفية وتشبّعت الآن ولو بصورة طارئة بثقافة دينية متعصّبة جرّاء تداعيات الإحباط الواسع لدى شعوب المنطقة من فشل أنظمة الاستبداد وفشل التنمية، وبالتالي قيام تنظيمات ارهابية لا تقيم أي وزنٍ للانسان وللقيم الأخلاقية والحضارية والدينية، فهي خارجة عن تعاليم كل الأديان والمذاهب والطوائف والقيم والانسانية!

أكلة الجبنة
ان الطبقة السياسية التي توالت على حكم لبنان لم تحسن استثمار إمكانات النظام الموروث عن عهد الانتداب الفرنسي، والعمل على تطويرها. بل هي أساءت الاستخدام، من جراء التكالب على السلطة والمال، أو اللعب على الوتر الطائفي. وهذه واحدة من إشكاليات لبنان الذي يتردد بين ميزته وعلّته، بين ابداع الفرد وتحجّر الجماعة. بين تعددية الطوائف التي صنعت للبنان حريته وهواجسها المتبادلة التي تصنع مآزقه. بين ازدهار القطاع الخاص وفشل الساسة. ثمة استثناءان: الأول تمثّله عملية الاصلاح والتطوير العام في البلاد التي جرت في عهد الرئيس فؤاد شهاب والتي جرى الالتفاف عليها من جانب «أكلة الجبنة» (كما كان يسمّيهم الرئيس شهاب). الثاني تمثّله محاولة الرئيس رفيق الحريري للنهوض بلبنان من محنته، وقد كلّفته حياته، لأن هناك من لا يريد للبنان أن يعود الى وضعه الطبيعي، كبلدٍ آمن ومستقر.

يرى البروفسور فيليب سالم «أنّ المواطن اللّبناني لا يحاسب زعيمه على أخطائه مهما بلغت هذه الأخطاء، وهو يعود لينتخبه من جديد لإيمانه بأنّ هذا الزعيم من منطقته ودينه. وهذا الفكر السياسي هو فكر خاطئ جداً. ونحن نعتبر أنّ السياسة هي عبارة عن قصص ومجموعة من (الدواوين) في حين أنّ السياسة هي علم يتعلق بكيفية صناعة الشعب، وهو أمر يستدعي وجود مفكرين وأطباء وسياسيين ومحامين.»

ليس لدى اللبنانيين اليوم أي خيار، وما عاد في وسعهم خداع أنفسهم، ذلك أن لبنان اليوم على مفترق طرق. انه يموت كما تموت في الواقع الكثير من دول المنطقة. ولكن ما يموت تحديدًا هو ذلك اللبنان الذي نجا من تفكّك الامبراطورية العثمانية، واستمر تحت سلطة الانتداب الفرنسي «حيًّا يُرزق»، ولا أحد يدري ما هو مستقبل الوطن الصغير في ظلّ صراعات المنطقة والخرائط الجديدة الموضوعة لها.

ولا أحد يدري ما هو مصير لبنان، لأن أحدًا لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل. إن تحرير لبنان من المافيات السياسية التي تمتصّ خيرات شعبه وتفشل في إدارته، هو السبيل الوحيد لنهوض لبنان. فهل يبقى لبنان المزرعة والمصالح والمحسوبيات والنفوذ في السياسة والإدارة، أم يصبح وطن مؤسسات ومحاسبة وثواب وعقاب؟!
ليس هناك «وطن من دون دولة قوية» يقول فيليب سالم. ويتابع: «ليست هناك دولة قوية بوجود دويلات فيها. وإن لم نتعلم شيئاً من الحروب، نرجو أن نكون قد تعلمنا أمراً واحداً، وهو أنّ الدويلة لا تقود إلى الدولة. وإذا لم نتّفق نحن على رفض مبدأ الدويلات فلن يكون هناك دولة ولن يكون هناك لبنان!»
الحل الوحيد اليوم ليس فقط إسقاط الفساد، وأسياد الفساد والرشوة، بل أيضًا بانقاذ لبنان من أن يكون ضحية تسويات وخرائط وتقسيمات تجري فصولها في المطابخ الدولية، وكيانات جديدة تتصارع فيها وعليها المذاهب والمصالح والولاءات الخارجية.
يومًا بعد يوم تتكرّس فيدرالية الطوائف في لبنان بدل الفيدرالية الجغرافية، حيث يتكرّس أكثر فأكثر الفرز الطائفي والمذهبي على حساب الشراكة الوطنية الحقيقية الجامعة.