عبدالوهاب طالباني-سدني

صدر الكثير من الكتب باقلام عربية وانكليزية وروسية وغيرها من اللغات تتحدث عن الاحداث التي رافقت تشكيل الحكومة العراقية الاولى في 25 تشرين الاول 1920 حينما جاء «بيرسي كوكس «الى العراق لتنفيذ السياسة البريطانية ( حكومة عراقية تحت الانتداب) بتشكيل وزارة محلية برئاسة السيد عبدالرحمن النقيب ، ومن ثم تنصيب الامير فيصل احد امراء الجزيرة العربية واحد حلفاء بريطانيا في «الثورة العربية» في الحجاز 1916 – 1918 ملكا على العراق في 23 اب 1921، والكتاب الذي احاول قراءته في رأيي المتواضع يعتبر من الكتب القليلة التي يتعرض بدرجة من الموضوعية الى فترة مهمة من تشكيل هذه الدولة بعد الحرب العالمية الاولى التي تمخضت عنها اعادة تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية المنهارة من قبل الحلفاء والتي تسببت في الحاق اكبر الاذى ببعض شعوب المنطقة ومنها الشعب الكوردي الذي اعيد تقسيم بلاده بين تركيا وايران وسوريا والعراق ودون الرجوع الى اية استفتاءات لتبين رغبات الناس . اقول اقول ان هذا الكتاب يتمتع بدرجة مقبولةً من الموضوعية على الرغم من سمة الفكر القومي الذي يبدو من منهج الكاتب في طروحاته ، والذي يؤثر سلبا على موضوعية تحليله لبعض تلك الاحداث.

ولد المؤلف حسين جميل في كربلاء سنة 1908 وتخرج من معهد الحقوق في دمشق سنة 1930 ساهم في تاسيس «الحزب الوطني الديمقراطي» واصبح وزيرا للعدل بين 1949 و 1950 وامينا عاما لاتحاد المحامين العرب بين اعوام 1956- 1958 ، والف العديد من الكتب منها (نحو قانون عقابي موحد للبلاد العربية ، الحياة النيابية في العراق ، حقوق الانسان في الوطن العربي..) الخ…
وكتابه الذي بين يدينا صيغ على شكل مذكرات شخصية تقول عنه دار النشر التي طبعت الكتاب :
« هذا الكتاب مزيج من التاريخ السياسي والسيرة الذاتية لشخصية عراقية سياسية وقانونية بارزة عاصرت تطور العراق وساهمت في العديد من احداثه وذلك من مواقع سياسية مختلفة..»
ويمكن اعتبار الكتاب شهادة حية لفترة مهمة من تاريخ العراق عاش المؤلف كثيرا من تفاصيلها ، وهو يركز على الاغلب على كيفية تنصيب الامير فيصل ملكا على العراق وفترة الانتداب والاحداث التي رافقت صدور المعاهدة العراقية البريطانية او معاهدة الانتداب البريطاني في1922 ومن هذه الاحداث تطورات قضية ولاية الموصل وكيفية الحاقها بالعراق ، والمناورات البريطانية في مسألة امتيازات شركة النفط التركية وتسويق النفط الذي كان السبب الاساس في الحاق تلك الولاية بالعراق ، والذي تم على الرغم من رفض اكثرية سكان الولاية التي كانت تضم كركوك والسليمانية واربيل و(لواء الموصل ومعها دهوك واقضيته ونواحيها التابعة لها الان ) .
و يتحدث الكاتب بكثير من التفصيل عن ردود الفعل الشعبية على معاهدة الانتداب ومظاهرات الطلبة التي شهدتها بغداد وكان هو احد قادتها حيث تعرض الى الطرد من الكلية التي كان يدرس فيها مما دعاه للذهاب الى سوريا لاكمال دراسته ، كما يتحدث ، وبشيء من التحفط واللياقة ، عن الدور الذي كان الملك فيصل يؤديه في ادارة البلاد ففي حين كان(الملك) يقف في العلن مع المطاليب الوطنية ومع مواقف المعارضة ، لكنه كان دائما وفي الاخير يصدر القرارات والمراسيم التي تمثل رغبات الانكليز ومندوبيهم في العراق.ولكنه في الاخير يبرر للملك مواقفه تلك باعتبار ان ظروف التعامل مع سلطات الانتداب كانت تبرر شيئا من المرونة .
وفي موضوع اختيار فيصل ملكا على العراق يورد المؤلف عدة اسباب جعلته اهلا للمنصب (حسب رأي المؤلف) ص 59-60 «كون فيصل مقبولا دينيا لدى الطوائف الاسلامية العراقية وتعوده على السياسة البريطانية في الادارة و عداؤه للبلشفية ووضع حد على الارجح – لدسائس الملك حسين مع مصطفى كمال و دعم الاستقرار في المنطقة «.
ثم يقول المؤلف حسين جميل في الصفحة60 من كتابه ما يلي:
«يجب ان نبين ، انه بالاضافة الى الاسباب المتقدمة ، لم يكن في رأس السلطة البريطانية – سواء في الموقع او في الحكومة المركزية مرشح عراقي اهل لتولي هذا المركز ، كتب – ولسن – هذا في برقية اقتبسها ايرلند في كتابه
MISOPOTAMIA A CLASH OF LOYALITIES 1917-1920 Page 306
وابدى هذا الرأي – بيرسي كوكس – في كلمة له في مؤتمر القاهرة 12 مارت – مارس 1921(ايرلند مرجع سابق : الاصل الانكليزي ، ص 316 الترجمة العربية ، ص 246»
وترشح فيصل لعرش العراق في مؤتمر القاهرة الذي عقد في 12 شباط 1921برئاسة ونستون تشرتشل وحضره من العراق بيرسي كوكس المندوب السامي والقائد العام للجيش البريطاني في العراق و المس جرترود بيل السكرتيرة الشرقية في دار المندوب السامي وساسون حسقيل وزير المالية العراقي وجعفر الهسكري وزير الدفاع في الحكومة العراقية الموقتة .
ويقول المؤلف في الصفحة 62 :
« كانت القضايا التي نظر فيها المؤتمر فيما يختص بالعراق :
– التخفيض العاجل من المصروفات البريطانية
– اعادة النظر في السياسة التي تتبع في العراق فيما يتعلق ب:
– مستقبل العلاقات ما بين الدولة الجديدة التي يعتزم اقامتها في العراق وبريطانيا
شخص الرئيس المنتظر للعراق-
– طبيعة تشكيلات القوات الدفاعية للدولة الجديدة المفروض فيها ان تضطلع بحصة اكبر في الدفاع عن نفسها
– وضع المناطق الكردية في علاقاتها مع بقية انحاء العراق..»
اي وبعبارة اخرى فان مؤتمر القاهرة برئاسة ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني انذاك هو الذي صاغ ورسم شكل دولة جديدة في المنطقة ، وبناء على رغبات ومصالح الدول الاستعمارية وليس وفق مصالح ورغبات شعوب المنطقة. وان تصدي المؤتمر الى المشكلة الكوردية التي كانت ترتبط اساسا بمشكلة ولاية الموصل باعتبارها كانت تضم جنوب كوردستان – كركوك ، السليمانية ، اربيل اضافة الى مناطق الموصل الكوردستانية – شكل سابقة خطيرة ساهمت مع نتائج اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا وبمباركة روسيا القيصرية عام 1916 ، ومؤتمر لوزان(24 تموز 1923) الذي ضرب بنتائج مؤتمر سيفر(10 اب 1920) في تعقيد الوضع الكوردي واغراق كوردستان بالدماء والدموع و بالحروب والانتفاضات والقتل الكيمياوي والانفالات استمرت لاكثر من ثمانين عاما… الى يوم سقوط نظام البعث ولتستمر كثقافة عنصرية في اذهان الكثيرين من السياسيين العراقيين الى يومنا هذا ، ومن هنا يتضح ان كل الاستفتاءات الصورية التي قام بها الانكليز فيما بعد لم تكن الا ذر رماد في العيون ، فالانكليز كانوا ينفذون ما يريدون فقط ، والملك كان يستجيب لهم دائما ، بينما كان يغازل العناصر المعارضة من جانب اخر ليظهر بمظهر المدافع عن حقوق الشعب ، وهذا ما يؤكده المؤلف في اكثر من مكان في كتابه ويوثق كلامه بمذكرات ومراسم لا يمكن ردها.
و لا بد ان اورد هنا مقاطع من عرض المؤلف لكيفية التصدي لمسالة «المجلس التاسيسي» ولقضية ولاية الموصل والتصويت لفيصل الاول ملكا على الدولة الجديدة حسب رؤيته .
يتحدث حسين جميل في الصفحات 65 -71 وفي عرضه لمطالب» الحركة الوطنية» في اجراء انتخابات في البلاد عام 1920 لتكوين مجلس تاسيسي او (المؤتمر الوطني) كما كانت الصحف وقتها تسمي المجلس ومن خلال ما كتبت عنه الصحف البغدادية ، وفي فقرة (السلطة البريطانية تعلن موافقتها على انتخاب مجلس تأسيسي» يقول المؤلف:
«ابدت السلطة البريطانية موافقتها على طلب الحركة الوطنية انتخاب مجلس تأسيسي …» حسب البيان الذي اصدره «ولسن» الحاكم الملكي العام بالوكالة في 17.حزيران 1920 ، وفي « وفي بلاغ مؤرخ في 17.11.1920 نشره المندوب السامي في الصحف اكد النية على تاليف مجلس تأسيسي بالانتخاب – لاختيار شكل الحكومة- وهو « امر يجب ان يبت فيه العراقيون انفسهم» ولكن مشترطا عقد مؤتمر عام فبل كل شيء بقوله « ولا يمكن اصدار مثل هذا القرار دون مؤتمر عام يمثل الشعب العراقي تمام التمثيل « وناشد « الذين يشاركون المندوب السامي رغبته في تعجيل عقد المؤتمر العام واصدار قراره عايهم ان يشتركوا ايضا في حض الامى على الطاعة في الاماكن الثائرة لكي لا تتأخر اعادة السلم والقانون والنظام الى نصابها ولا تتأخر المباشرة في الانتخاب …».
ويقول المؤلف « بعد مؤتمر القاهرة الذي كان الرأي فيه – ان دعوة المجلس التأسيسي قبل تنصيب فيصل في العراق امر غير مرغوب فيه – عدلت الحكومة البريطانية عما كانت قد قبلت به فبل هذا من انتخاب العراقيين مجلسا تاسيسيا يختارون فيه الملك الذي سيتولى العرش ويضع القانون الاساسي للدولة..وقد اعلن عن هذا الموقف الجديد مرات عديدة « ومنها عندما» اجاب سكرتير المندوب السامي بكتاب مؤرخ في 8.تموز 1921 « بأن فخامة المندوب السامي يأسف للتأخير الذي حصل في امر الموافقة على قانون على الانتخاب والناشئ ، كما بين فخامته سابقا عن الاشكال الحادث في ايجاد حل موافق للمصالح الكردية في مناطق مختلفة بحسب معاهدة «سيفر» …وفخامة المندوب السامي يعرف الاسباب القاطعة التي تستفز مجلس الوزراء للحث على نشر قانون الانتخاب ، ومع علم فخامته بجميع الاحوال ، مستعد لتنفيذ مواد القانون المذكور ، بشرط ان تكون المناطق الكوردية مخيرة في الاشتراك في الانتخاب او عدمه ، وان لا يؤثر ذلك على قرارهم النهائي في خصوص موقفهم تجاه حكومة العراق ومنزلتهم لديها.»

ويضيف حسين جميل :
«بعد تلقي مجلس الوزراء كتاب سكرتير المندوب السامي اجتمع في 11.7.1921 وبالرجوع الى المحضر الرسمي لهذه الجلسة نجده بالصيغة التالية :
تلي كتاب من سكرتير فخامة المندوب السامي مرقم س-د ومؤرخ في 8 تموز 1921 متعلق بما يأتي:
« (1) احداث طريقة سهلة لاعطاء الشعب العراقي فرصة (تحقق) فيها رغائبه ويختار ملكا للبلاد فقرر مجلس الوزراء بأتفاق الاراء بناء على اقتراح فخامة رئيس الوزراء المناداة بسمو الملك فيصل ملكا على العراق ، ويشترط ان تكون حكومة سموه حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون . وقرر ايضا باتفاق الاراء ابلاغ هذا القرار وزارة الداخلية لتذيع ذلك في جميع دوائر الحكومة الرسمية لاجراء ما يلزم».

(2) المسألة الكوردية: فما دامت الحكومة البريطانية تفسح للمناطق الكردية مجالا للاشتراك او عدمه في الانتخاب للمجلس التاسيسي بحسب منطوق – معاهدة سيفر- يرى مجلس الوزراء ايضا ان لتلك المناطق الحرية التامة للاشتراك او عدمه بحسب المعاهدة المذكورة ، وان لا يعتبر اشتراك الاكراد او عدمه حجة عليهم في المستقبل ، والحكومة العراقية تود اشتراك المناطق الكردية معها وترغب في عدم انفصالها عن جسم المملكة العراقية « .
(3) بناء على ما ورد في القرارين السابقين لا يرى مجلس الوزراء ما يمنع الشروع حالا بتنفيذ النظام الموقت لانتخاب المجلس التأسيسي « قرارات مجلس الوزراء الصادرة في تموز واب وايلول سنة 1921 كتاب رسمي ص 9 و10».

وبناء على هذا القرار كتب المندوب السامي الى مجلس الوزراء طالبا اجراء التصويت العام على ملكية الامير فيصل , وقد كتب (ايرلند ) عن رد الفعل الكوردي ازاء ترشيح فيصل فقال:
« لواء كركوك صوت ضد فيصل ، ولم تساهم السليمانية في الاستفتاء» ( العراق . الاصل الانكليزي ص 333 الترجمة العربية ص 261)
ويقول حسين جميل في الصفحة 73 من كتابه بشأن رأي لواء الموصل فيقول:
« صوت الكثيرون لفيصل بشرط المحافظة على حقوق الاكراد والاقليات « مقتبسا من ( ايرلند مرجع سابق الاصل الانكليزي . ص 333 الترجمة العربية ص 266).
والكتاب يحتوي على الكثير من الوثائق الحكومية ورسائل الموظفين البريطانيين وخصوصا رسائل المندوب السامي ورسائل المستشارة البريطانية ( المس بيل) وايضا رسائل والدتها حول احداث بداية العشرينات وكيفية تأسيس الكيان العراقي.
وفي قراءة معمقة للكتاب يظهر ان المسألة الكوردية كانت تأخذ مساحة كبيرة من تعقيدات تأسيس الكيان الجديد باعتبار ان الكورد كانوا يرون ان من حقهم تقرير مصيرهم بنفسهم ( وهذا حق مشروع لهم) اسوة بالشعوب الاخرى التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الاولى ، كما ان معاهدة (سيفر) في بعض بنودها اقرت بحق تشكيل كيان كوردي مستقل ، ثم جاءت معاهدة (لوزان ) التي ظلمت الكورد ونتيجة لضغوطات من قبل اتاتورك واستجابة لمنافع خاصة بالدول التي اقتسمت ارث العثمانيين الغيت تلك البنود وابقيت على اشارات حول «مراعاة خصوصية الاكراد والاقليات الاخرى..!» تلك التي لم تراعى ابدا ، وكانت حركات الشيخ محمود الحفيد على اشدها والذي اعلن تشكيل حكومة كوردية في السليمانية و حكمدارا على جنوب كوردستان في 17 تشرين الثاني 1918، وتعرضت مدينة السليمانية بعد فترة وجيزة من ذلك الاعلان لهجوم عسكري بريطاني كبير حيث تم قصف المدينة من الجو عام 1919، واسقطت الحكومة ولكن الثورة لم تهدأ وخاض الشيخ محمود الذي كان على اتصال بثوار بارزان وبالشيخ احمد بارزاني شقيق الزعيم الخالد مصطفى بارزاني معارك مهمة اهمها معركة دربندي بازيان ( بين كركوك والسليمانية)في 18 حزيران 1919 ومعركة ( اوباريك)عام 1931 في سهول كركوك الجنوبية الشرقية حيث كان الشيخ ينوي الدخول الى كركوك.
وليس من الغرابة ايضا بمكان ان نرى بين دفتي الكتاب اشارات الى الخلافات الطائفية، حيث يذكر المؤلف حادثة لها دلالاتها في تأثير هذا الصراع على المجتمع العراقي على الرغم من محاولات زعماء الجانبين اطفاء اوارها وتعزيز « الوحدة الوطنية» التي دعا اليها المندوب السامي البريطاني لاول مرة(!) في حفل تتويج الملك فيصل.