أنطوان القزي
مات الصديق كامل المرّ وفي حبرِ يدَيه المسافرتين ملامح ايامِنا الذهبية، وطيّ كفّيه ترسملتْ حروفنا.. كامل المرّ يا شجرة الضوء التي أينعت ثريّاتٍ في سماء الباسيفيك ، اراك تبتسم وقد حُملتَ على أكتاف الكلمات، يا ربيب الضاد الذي جعل سيبويه يأنس للضفاف البعيدةويلوّح لنبيّ أورفليس بشراعٍ قدموسيّ.
كامل المرّ يا مَن حصد أخصب المواسم عبر ربيبته رابطة إحياء التراث العربي ، فشدّ إليها العمالقة والمبدعين من كل صوب متجشمين عناء السفر ليتسلّموا جائزة جبران العالمية التي كان لي شرف الحصول عليها غداة وصولي الى هذا المنأى..
كم أعليتَ من المداميك يا كامل وحولك فؤاد نمّور ونعيم خوري طيّب الله ثراهما وشربل بعيني أطال الله بعمره وغيرهم..هؤلاء أجادوا وأبدعوا وأرسوا معلماَ اغترابياً يضاهي الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية.
سيذكر التاريخ «رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا» كأيقونة زيّنت أعناق المثقفين قبل أن يغتالها مَن لم يكن أهلاً لها، فخنقها وحبسها في دُرج منزله ومنع الصلاة على روحها لتصبح اثراً بعد عين. وهذه عاقبة من يعطي الخبز لغير الخبّاز.
سقى الله أيام الحصاد الذهبي ، ولا سامح مَن هشّم أيقونة كامل المر.
كنا يا كامل متفاهمَين على الإختلاف، وكنا على وجهَي نقيض في السياسة والإيديولوجيا، لكننا ائتلفنا وتصادقنا في هيكل الكلمة التي اصطلينا جمرها معاً حتى يوم رحيلك.. رحمات الله عليك.
كنتَ يا كامل زائراً دائماً لي في مكاتب «التلغراف»، وإن انسى لا أنسى عندما كنتَ تزورني كلّما فرغتَ من وضع أي كتاب، وتسألني عن وقتي لتحدّد على أساسه تاريخ توقيع كتابك.. وهل هناك فخرٌ لي أكثر من هذا وكأنك تمنحني شرفاً يفوق كل الدروع والأوسمة.
كامل المرّ، أسمح لنفسي أن أنشر واحدة من مداخلاتي ألقيتها في مناسبة توقيع أحد كتبك «قلْ كلمتك وامشِ» وهنا نصّها:
دِينُه القرطاسُ سيّافٌ وحرّ
في متون الحرفِ نجماً يستقرّ
من كفرحلدا سقى الأوراق حبراً
وانبرت ازهارُه عطراً تدُّر
قد بنى رابطة امست مزاراً
موسمُ الإبداع منها يستدرّ
أولمتْ للفكر في سدني صروحاً
ليس في افيائها للشمسِ سرُّ
من جراح الشرقِ نجواهُ هتافٌ
كاملٌ في ثورة الاقلام مرُّ
لم يبلغ كامل المرّ من العمرِ عتيّاً بقدر ما بلغ من تألُّقٍ وسعةِ معرفة، مؤتزراً ملامحَ نضالِ انساني، سلاحُه يراعٌ متحفِّز وبساطُه سطورٌ مكتنزة وغايتُه العلاقة السويّة بين جُرحِ الكتابة ومحبرةٍ تبلسمُ أرق الحروف. قد يُقال ان «التلغراف» احتضنت خواطر كامل المرّ وهو يخطّ مراراتِ تموز، والحقيقة، أنه هو الذي يحتضن الإعلام برسالته والأدبَ بقلمِهِ ومعارضَ أهلِ الفنِّ برهافته. جرحُهُ المفتوحُ على ذكرى ابنِه هشام يؤرّق فيه المواجع، يجبهُ الحروبَ بقسوٍة المُصلِح مرّة، وبمرارة العاتب مرّات، وينزعُ قناعَ المتآمرين باحثاً عن وجهٍ داستهُ أحصنةُ طروادة على ارضِ وطنِهِ الجريح. جنديٌ حتى آخرِ قطرةٍ من حبرِ دواته، مقاوم حتى آخر رمقٍ من نهَم ريشتِه، بحّارٌ حتى آخرِ موجةٍ طواها قدموس، ساريتُه تشقّ الغمام، تفتحُ كوّةً الى السماء، ربما يرى الإلهُ لبنانَ كامل المرّ فيعيدَه واحداً أحداً. قرأتُ الكتابَ فوجدتني ساكناً فيه ومسكوناً، ساكناً في قلقِ كامل المرّ وتوجُّسهِ، ومسكوناً بحبال رجائه المتقطّعة، ترودُ الجنوبَ تعانقُ أطفالَه لتَرتدَّ الى الشمالِ تحملُ الطيبَ والبلاسم. ما تسلّق سلّماً ليدّعي، ولا اعتلى منبراً ليكابر. ما أخذتهُ نشوةُ الكلام الهجين، ولا استلَّ سيوفَ التباري لينتصر، بل أوقدَ جمرَ الحقيقةِ على مدِّ المواسم، فكانت ثمارُهُ اليافعات تنهل من أباريق الشرق غنجَ البراعم وتستريحُ على أغصانِ الغربةِ طيوراً تملأ سماءَ الباسيفيك وثرياتٍ تتدلّى من قبّة رابطة إحياءِ التراثِ العربي. يقولُ كلمتَه ويمشي لأنّ البيزنطيين يتربّصون على كلّ المفارق، يجادلون ويعاندون بغير هوادة ولا بصيرة. يقول كلمتَه ويمشي لأن السفسطةَ فاضت في إناء العطاش، ولأن الوطنيةَ صارت تُباع كالخردةِ في سوقِ الأحد، وتُطرح بالمزاد في ساحات الدلاّلين. مثل مملكة إليسار اتسعت رقعة قرطاجه، وسجّلت الضادُ فتحاً جديداً على جسر الهاربر وغطّت بسمةُ سيبويه خليج سدني وراحت أغاني زرياب تدقّ أبواب الأوبرا هاوس. كانت اوستراليا صفحةً عذراء ما أدركتها رحلات ابن بطوطة ولا نزل فيها سندباد، ومع رابطة احياء التراث العربي تكاثرت القصائدُ كالمرايا وتكسّرت قوالبُ الصمت حين راح كامل المرّ يخوض جهداً عنيداً من أجل ترسيم عالمٍ أرادهُ حيّاً ولسان حاله يقول: «هناك متسعٌ جمالي في جزيرة الكنغر يستطيع اجتذاب خطواتنا بعيداً عن جنّة الشرق. وراح سراجُه يلملم رمادَ الليل ويحطبُ زاداً للمواقد وعينُه غابةٌ مفتوحةٌ على الفردوس. فكانت المطبعة وكان الكتاب وكانت الامسية وكانت الندوات وزغردت القوافي واستعادت شياطين الشعر ممالكها ولم تعد سدني ليلاً أحمرَ وشفاهاً قرمزية، بل تكحّلت عيناها بأقلام محابرنا وتبرجّت وجناتُها بغزَل شعرائنا وتعطرت أعناقُها برذاذ قرائحنا وصار المتنبي يقارع شكسبير وجبران يوزّع هداياه حيث تطلع الشمس من صدر المحيط. شكراً كامل المرّ، وما أوسع صدرك، تحيةً وما أعمق إيمانك بما أخترت، قل كلمتك وامشِ فأنت على الأقل ما زلت تسير على دروب الناس في زمن كثر فيه نزلاء الأبراج. قل كلمتكَ وامشِ، فسارية الضوءِ لا تهادن الأنواء بل توزّع الأقباس زاداً للموانئ البعيدة. قل كلمتكَ وامشِ فبنات الريح ترفلُ العطر خميراً لصباحاتٍ جديدة، ودفق الأنهار اكثر عذوبةً من المياه الآسنة وهدير الموج لسان حال البحار. قل كلمتكَ وامشِ فممالك النحل لا تنتمي الى مكان ومن مثلك من معدن الشمسِ لا توقفه دمعة الشموع ورجفةُ القناديل. كامل المرّ ليس يداً واحدةً لا تصفّق، فنحن يدُه الثانية، سوف نصفّق معاً لأن الغد لنا . لأن سفننا المحمّلة طموحاً واصراراً ستفيء الى موانئ الحياة ولأن مراسينا ستوزع طحين القيامة خميراً يزهر وفاءً على قبور الشهداء. معه نقرع النواقيس معه نطرد أشباح الظلمة، معه نفرد للضوء مساحة الحب والوفاء ومعه نقول كلمتنا ونمشي لأن لنا كلاماً في مكانٍ آخر. بين قلبِه ولسانه امتطى الأدب المهجري أرجوحة صباه. وحصد العطاءات مروجاً وعبر ، وبين أمسه وغده ستبقى الاوراق أرغفة تولم خبز المعاني، وفي متون كتبه يندى جبين الاستعمار ويخجل صلف الاحتلال من بغداد الى القدس لترتفع هامات الابطال سامقة كنخيل العراق وارز لبنان. هو الذي استباح المضامين ميداناً لثورته، أثقل السطور هتافات تشق صدور الطامعين، هو الذي ادار البوصلة الى محجّ المتألمين، حمل ثلث قرنٍ على منكبيه وما ناء ولسان حاله يقول ما أهون حمل الحقيقة مهما كانت اثقالها. فتحيةً له لأنه جمع في عصر التشرذم، وأنار في زمن المجهّلين وتواضع في ساح المستكبرين، في رابطته بوركت عطاءات ونضجت مواعيد وزفّت بشائر ومن كان الحرف لهُ سلاحاً، كلنا جنودٌ في معركته.
*الصورة سنة 2010: الرابطة تمنح المطران عصام درويش والصحافي سركيس نعوم جائزة جبران العالمية وحولهما د.اميل الشدياق وكمال براكس والمرحوم بطرس عنداري والمرحوم كامل المرّ وكاتب هذه السطور.
تقبل التعازي يالفقيد كامل المر غداً الخميس بين السادسة والتاسعة مساء في مركز جمعية كفرحلدا في لاكمبا.
وتقام مراسم الجنازة والصلاة لراحة نفسه يوم الاثنين 17 نيسان في كنيسة مار بطرس وبولس على العنوان 182 هيل اند رود دونسايد.