شهادة رئيفة داود صليبا
أبو مَنّه – كركر


ولدت في مدينة اللد في 7/3/1934، شاهدة على الأحداث التي حصلت عند سقوط المدينة، عندما دخلت الفرق المسلحة إليها، كانت غارة مفاجئة للجميع أتت على أرواح لا ذنب لها سوى أنها خلقت لكي تحيا.
قالت رئيفة: ما راح أقدر أنسى ما دمت على قيد الحياة ماذا حصل، أصبحتُ في عمر متقدم، وكلما أردت النسيان، وجدتُ نفسي أستذكر الأحداث مجددًا.
لقد رزقني الله بزوج كريم ومحبوب من أهل البلدة يدعى فائق أبو مَنّة، وكان شاهدًا على النكبة أيضا، نحن أولاد بلد واحد، وحّدت بيننا الأحداث وصرنا كلما اختلينا ببعضنا، نتحدث عما جرى في النكبة، لم نستطع إخراج المَشاهد من حياتنا، وأصبحت الذكريات من أهم يومياتنا.
لي أربعة أبناء وابنة واحدة، جميعهم درسوا، وتزوجوا، وكوّنوا عائلات جميلة، ولي أحفاد وأولاد أحفاد، جميعهم حولي ولم يتركوا فلسطين.

أبي داود كركر، ووالدتي نايفة البرو، وبيتنا القديم ما يزال قائما في اللد، أكلتهُ الأعشاب الضّارة، وعاثت فيه السنين خرابًا، تهجّرنا منه ولم نستطع العودة إليه، ولم تسمح لنا السلطات الإسرائيلية باستعادته بحجة أنه لا يصلح للبناء.

لي اثنان من الأعمام، أحدهما في يافا، والثاني قتل في القدس في ثورة 1936، برصاص اليهود، كان في السادسة والثلاثين من عمره، ويدعى حنا كركر.
في النكبة، كنتُ في الصف السابع، يعني في عمر ناضج وأتذكر كل شيء، اُقتيد أخوتي إلى الأسر، وتبدّلت الأحوال وبدأت الفوضى تعمّ البلد، لم نرَ ولا يهوديًا واحدًا في اللد قبل النكبة، خشية من العرب، اللهم، سوى طبيب يدعى (بنيت)، كان يحضر كل يوم ليؤدي عمله في عيادته، ويغادر بعد الدوام سريعا عائدا إلى بيته.
أقام اليهود في أماكن أخرى بعيدة، ولم نعرف شيئا عن تفاصيل حياتهم، لكن فجأة، وجدنا أنفسنا داخل كمّاشتهم عندما هجموا علينا من بيت شيمن، خيّب الأمر آمالنا كثيرا، بما أنه عقد اتفاق صلح، وتعهّد القيمون على اتخاذ موقف الحياد للحفاظ على الصداقة التي كانت تربط بيننا وبينهم.

كان ذلك يوم أحد، والوقت كان نهارا، لم تكن هناك حراسة للمدينة من قبل شبابها، وقد اعتادوا أن يفعلوا، ربما انتهى الشباب من دورهم في الحراسة ليلا، وأَوَوْا إلى مخادعهم نهارا حتى يستريحوا، أو ربما ذهبوا إلى أعمالهم، للأسف، نستطيع أن نقول إنه لم تكن الحراسة مجدية بسبب قلة الأسلحة.
لقد سُلبت منا المدينة سلبا وبالخديعة، ارتدى اليهود الزّيّ الأردني الشعبي وتحدثوا العربية، كُنا في البيت حينها، انشغلت والدتي بتحضير الطعام والعجين، وإذ بشقيقتي التي تعمل ممرضة في المشفى، تدّق علينا الباب مذعورة، وصرخت لاهثة، وطلبت منا الذهاب معها إلى المشفى في سيارة الإسعاف التي جاءت فيها، شاهدت شقيقتي الجيش الذي انطلق من بين شيمن، والذي بدأ يتحضر للهجوم على المدينة، من نافذة المشفى المشرفة على المنطقة، كانت المنطقة فارغة جدا، وبالإمكان رؤية ماذا يحصل في الأنحاء، وبالعين المجردة.

تركنا البيت، وذهبنا معها دون أن نأخذ معنا أي شيء، أتذكر شقيقي، بعد ساعات، عاد إلى البيت وجاء بالطعام لأن الجوع بدأ يدبّ فينا، جرأة كبيرة أن يذهب بالعجين إلى الفرن لخبزه أيضا، ذهب إلى بيتنا، حمل الأرغفة المصفوفة وذهب بها إلى الخباز وخبزها، ثم جاء بها إلى المشفى يتقاسمها كل من كان هناك، فعلَ كل ذلك دون أن يعترضه أي يهودي، ربما تكون قد تمركزت قواتهم في مناطق معينة بعيدة عن المنطقة التي فيها الفرن والمشفى! لكنهم، مساءً وصلوا إلى المشفى ودقّوا الأبواب بشراسة لتخويفنا، أو لربما أرادوا أن يوصلوا لنا رسالة التسليم كما وصلت للآخرين، رسالة الرحيل إلى برفيليا أو إلى رام الله، كما فعلوا مع جميع أصحاب البيوت التي تركها أصحابها، وهربوا خائفين.
هرب أخي إلى خارج المشفى خوفًا من أن يؤسَر، كان في الخامسة عشر من عمره، شاعَ خبر اقتياد الشباب إلى الأسر في المدينة، فضاعف من الخوف الذي كبّل أقدامنا، لم نعرف كيف نتصرّف، وماذا نفعل حتى ننجو بأنفسنا، كل شيء حصل بسرعة وكأن اليهود خططوا إلى حشرنا ليس فقط في الكنيسة والجامع جسديا فقط، بل خنقوا أفكارنا حتى لا نستهدي إلى فكرة تقودنا إلى الطريق الصحيحة، وأظن أننا اتخذنا قرارًا صائبا في بقائنا في المدينة ولم نلحق بالنازحين، يوجد منهم من قضى على الطريق، هربَ شقيقي وسلكَ المسلك ذاته الذي سلكه المطرودون، وعندما انتهت الحرب عاد، وروى لنا ما شاهده من مشاهد يندى لها الجبين.
“ ما دونه الغبار” اصدار مكتبة كل شيء – حيفا 2021