رغيد نحّاس – سدني
أعتقد أنّ لأستراليا مكانة دوليّة لا توظّفها بالطريقة اللائقة، بل ربّما لا تريد أن تقوم بذلك، رغم تصريحات زعمائها بعكس ذلك.
ما يجعلني أقول هذا ليس حنكتي السياسّة، والتي تقارب الصفر. بل هو محبّتي وشعوري بالمسؤوليّة نحو بلد تبنّيته بكامل وعيي وإرادتي الحرّة.
منذ وصولي إلى أستراليا، عام 1988، للاستقرار فيها، تمتّعتُ بكلّ المزايا التي يمكن لأستراليا أن تعطيها. كما أنّني بدوري قدّمت لها كلّ ما استطعت في حدود كفاءاتي وإمكانيّاتي، وزوجتي كذلك. أنا وزوجتي الآن متقاعدان على حسابنا الخاصّ، دون الحاجة لأيّ معاش تقاعد من الدولة. وهذا أمرّ يدعوني للفخر، لأنّه تتويج لعلاقة صحّيّة بين الفرد والمجتمع الذي احتضنه. ابنتانا استفادتا من النظام التعليميّ، وهما الآن في أعلى مراتب مهنتيهما، وتنعمان بحياة عائليّة ناجحة. حقّقتا، خلال سنين قليلة، أفضل ممّا حقّقنا في عمر كامل.
في الواحد والعشرين من هذا الشهر (مايو 2022)، مارسنا حقّنا الديمقراطي في انتخابات حرّة أدت إلى تغيير الحكومة من الليبراليّين إلى العمّال. كلّما قمت بالاقتراع، أتذكّر أوّل مرّة شاركت فيها في الانتخابات الأستراليّة عام 1993، وكانت تلك أوّل انتخابات حرّة مارستها في حياتي، وكنت تجاوزت الأربعين من العمر. هذا الشعور بحرّية الاختيار لا يقدّر بثمن. وبالمناسبة، لا أقترع لحزب أو فئة معيّنة. أفضّل أن أقترع للشخصيّة التي أرى فيها الجرأة والعدل والحكمة، إن وجدت.
تمثّل أستراليا القيم الغربيّة التي تبنّيتها، وكان انتقالي إلى أستراليا قرنًا لقولي بفعلي. وهنا تكمن مشكلتي. ليس فيما تبنّيت من قيم، بل بالغرب الذي لا يعيش وفق مبادئه، خصوصًا حين يتعلّق الأمر ببقيّة بلاد العالم غير الآنكلوساكسوني. وما غزو العراق، وتدمير سوريا سوى أمثلة حديثة على ذلك.
كما أنّنا شهدنا بوضوح «الكيل بمكيالين» الذي يقوم به الغرب حين يندّد بالغزّو الروسي لأوكرانيا، ولا يندّد بالغزو الإسرائيليّ لسوريا وضمّ إسرائيل لمرتفعات الجولان منذ سنين. وكذلك فيما يتعلّق بمعاملة اللاجئين الأوكرانيّين مقارنة مع اللاجئين غير الأوروبيّين، كمثال آخر من أمثلة كثيرة.
أستراليا خادم أمين للغرب، خصوصًا الولايات المتّحدة الأميركيّة. ويبدو أنّ أستراليا عاجزة عن التفرّد بصوتها، رغم أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة بحاجة كبيرة لأستراليا.
قدّمت أستراليا تضحيات كثيرة للغرب، رغم وجودها في شرقها البعيد، تحت حجّة القيم الغربيّة، وصون الحرّيّة والديمقراطيّة. وتحالف «أنزاك» مثال كبير على ذلك.
معظم التحدّيات الأساس التي تواجه العالم اليوم لا يمكن التصدّي لها إلّا بتضافر العالم كلّه. المناخ، الطاقة، الاقتصاد، السلام، من أهم ما يجب التعاون عليه.
لا شكّ أنّه لا يمكن أن تتخلّى أستراليا عن تحالفها مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، والغرب عمومًا، لكنّ هذا يجب أن لا يمنع أستراليا من حرّيّة كيفيّة التعامل مع بقيّة العالم، خصوصًا الصين.
ميول أستراليا الغربيّة، وجغرافيّتها الشرقيّة يضعانها في موقع مميّز لتكون «سفيرة سلام»، ووسيطًا فعّالًا بين مختلف الفرقاء حول العالم، خصوصًا بما تتمتّع به من تقدّم علميّ واقتصاديّ. وحتّى تقوم بذلك، لا بدّ لها أن تثبت مصداقيّتها وتستعيدها أمام جيرانها. ويبدأ هذا بأن تتعامل مع جيرانها وفق مبادئ الاحترام المتبادل. على أستراليا أن تثبت للعالم أنّها ليست عبدًا للولايات المتّحدة الأميركيّة، وأن أيّ تحالف يجب أن لا يكون مانعًا من تحالفات أخرى تفيد البلد. إن الإصرار على التحالف مع الغرب فقط ليس سوى تأكيد على روح «الحرب»، خصوصًا إذا كان الشرط هو «إمّا معنا أو علينا». كلّنا نعلم الآن بوضوح أنّ هذا الشرط أميركيّ بامتياز، فالولايات المتّحدة الأميركيّة ليس لديها مانع من القضاء على معظم العالم لتبقى مسيطرة. منذ الحرب العالميّة، وحتّى الحرب الأوكرانيّة، لا زلنا نتلقّى التأكيدات بأنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة لا تمانع من المحاربة حتّى أخر جنديّ أوروبيّ. وبرأيي أنّ ما تقوم به الولايات المتّحدة الأميركيّة اليوم ليس مجرّد حرب ضد روسيا، وإنّما ضدّ أوروبا لأنّها تريد إبقاءها تحت سيطرتها، ولا تريد لدول مهمّة مثل ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا أن تحرز دور القيادة.
بعبارة أخرى، يمكن للولايات المتّحدة الأميركيّة أن تتخلّى عن أستراليا في أيّ وقت ترى أنّها تستغني عن خدماتها. لن يكون هناك أيّ صيانة لأيّ ميثاق شرف. هذا لا يعني أنّ روسيا والصين سيكونان مثاليّين في أيّ تحالف معهما، ولا أقول أنّه يجب أن يكون تحالف (عدم وجود تحالف لا يلغي التعاون). ولكن حتمًا لن نجد أسوأ من طريقة التعامل الأميركيّة. وحتّى لا ننسى، وعلى الرغم من المساعدة الروسيّة في سوريا، رأينا مؤخّرًا كيف تتغاضى روسيا عن انتهاكات إسرائيل لحرمة الاراضي السوريّة. ولهذا، أيّ تحالف يجب أن يبنى على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وتمييز أنّ العالم اليوم مهدّد من عوامل مختلفة.
القضيّة الفلسطينيّة من أهم قضايا العالم التي تحتاج إلى تسوية عاجلة. بقاؤها على هذا الحال سببٌ لكثير من التوتّر العالميّ العام، والاضطهاد للشعب الفلسطيني بشكل خاصّ. وأعتقد أنّه يمكن لأستراليا أن تقود مبادرات هامّة في هذا المجال. بعض مواقف رئيس وزراءنا الجديد تجاه الشعب الفلسطينيّ مشرّفة جدًّا، ولكنّها كانت حين لم يكن في الحكم. هل يا ترى سيتمسّك الآن بقيمه السامِيَة؟ لا أعلم، خصوصًا أنّ شخصيّة سياسيّة بارزة أخرى من الحزب نفسه صارت مؤيّدة لقضايا الشعب الفلسطيني فقط بعد أن اعتزلت السلطة، ولم تكن كذلك حين كانت في السلطة.
لا أقول هذا الكلام لأنّني شخصيًّا متفائل (أو متشائم) بالتغيير من حزب لحزب. عوّدنا نظام «وستمنستر»، الذي يعتمد على حزبين رئيسين، أنّه في كلّ مرّة يملّ الناس من حزب يقومون باختيار الآخر أملًا في الأفضل. أمّا في واقع الأمر، لكلّ طرف محاسنه وسيّئاته، وفي كثير من الأحيان لا يترجم هذا التغيير إلى فائدة تعود على الناخبين أو البلد. ولكن يحدث أن يكون بعض القياديّين على درجة من الوعي والمسؤوليّة بحيث يتقدّم بمشاريع تحدث تغييرات هامّة في حال موافقة المجلس النيابيّ والتشريعيّ عليها.
رئيس الوزراء الجديد أنثوني ألبانيزي شخصيّة معتبرة، أرجو أن تحتل أستراليا مكانتها العالميّة اللائقة العادلة على يديه.
كم سيسعدني أن يتدخّل بلدي «أستراليا» في حلّ أهمّ قضيّة مستعصية في بلدي «الشام».