Peirre Samaan2

بقلم بيار سمعان

{ حافظت استراليا حتى مطلع السبعينات على سياسة «استراليا البيضاء» وتمسكت بمقاييس ثابتة لاختيار المهاجرين وفرض سياسة انكلوساكسونية عليهم .
لكن الثابت ان استراليا لحقت بالفلسفة الاجتماعية التي اعتمدتها الدول الاوروبية بعد ان قررت تطبيق  فلسفة اجتماعية جديدة تقوم على مبدأ التعددية الثقافية. وسعت اوروبا الى استيعاب المهاجرين من دول الاستعمار السابقة والدول التي زودت اوروبا باليد العاملة الرخيصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومعظمهم من المسلمين ، اذ شهدت هذه الدولة حركة اعادة اعمار لما دمرته الحرب. وكان لا بد ان تسعى الحكومات الاوروبية الى افساح المجال امام المجموعات البشرية التي تختلف عنها في العرق والدين والثقافة ان يشعروا  بالاحترام على امل ان تندمج هذه المجموعات في المجتمع الغربي وتصبح جزءاً فاعلاً من مكوناته.
في سنة 1973 اطلق غوف ويتلم اصلاحاً اجتماعية يقوم على اعتماد التعددية الثقافية التي تسمح بالتنوّع والاختلاف ضمن اجواء التناغم الاجتماعي وقول الآخرين في اجواء ديمقراطية. ومع مالكوم فرايزر (1978)  جرى تدعيم هذه المبادئ واطلق اذاعة وتلفزيون اس بي اس لترسيخ هذه التعددية وفتح الاقليات نافذة على ثقافات الاليات الاثنية. ثم تلاه بوب هوك الذي حافظ على سياسة التعددية في الثمانينات ومطلع التسعينات. ومع ابن بانكستاون بول كيتنغ انعكست البيئة التي نشأ فيها  على سياسته فدعم التعددية الثقافية واللغوية واصبحت هذه السياسة عرفاً اجتماعياً شبه مقدس ومن صميم الفلسفة الاجتماعية في استراليا. وجرى تعميم مفاهيم التعددية على المؤسسات الحكومية والمدارس والمؤسسات الطبية ومعظم المرافئ الاجتماعية. وظهرت وجوه اثنية في وظائف ومراكز حتى اصبحت كالديكور التجميلي للمظهر الاجتماعي.
وشهدت الفلسفة التعددية تطوراً في المفاهيم والممارسات بشكل يتلاءم مع النمو السكاني المتنوع الاصول، لدرجة ان الحفاظ على الثقافات المتعددة اصبح عنصراً يعبر عن الهوية الخاصة بالمجموعات السكانية من كل بلد.
في احصاءات 2011 تبين ان 26 بالمئة من سكان استراليا ولدوا خارجها. واقام 82 بالمئة منهم في المدن  الكبرى، وسدني في طليعتها. وانعكس ذلك ميدانياً وادت الى خلق تجمعات عرقية وثقافية ودينية في مناطق معينة. ومال معظمهم الى الاقامة حول الكنائس والمساجد والمدارس الخاصة بهم.
وعملاً بسياسة التعددية دعمت الحكومة الفيدرالية كحكومات الولاية ظاهرة المدارس الخاصة بهذه الجاليات على امل ان تكون التعددية الثقافية مدخلاً صالحاً للاندماج الاجتماعي وحسن التكيف، انطلاقاً من مفهوم المبادلة في التعامل والاحترام وقبول الآخرين.
غير ان الواقع لم يكن مشجعاً احيانآً. لذا حاولت حكومة جون هاورد اطلاق سياسة «استراليا الواحدة» التي تعطي الاولوية لاستراليا، ربما على حساب التعدّد المتنوع. وظهر على الساحة الاسترالية اصوات تدعو الى رفض التعددية واطلقت بولين هانسون حزب «امة واحدة» وطالبت باستعادة الهوية الاسترالية وفرضها اساساً واولوية بالنسبة للثقافات الاخرى، لكن رغم هذه المحاولات لم تتجرأ اية حكومة على المساس بالتعددية .
غير ان التخوف من فلتان الامور، خاصة مع ظهور سلوكيات اجتماعية نافرة، انطلقت في وسائل الاعلام تعابير جديدة مثل «العصابات الصينية» و«العصابات الفيتنامية» و«العصابات اللبنانية» ثم خففت الى «شرق اوسطية». وارغمت الشرطة على خلق وظائف جديدة لمرشدين اجتماعيين متخصصين بمختلف الجاليات الاثنية حسباماكن تواجدها، كما انشأت الشرطة ايضاً مجموعات متخصصة بمكافحة الجريمة «الاثنية» والخاصة ب بعض الجاليات.
ومع انطلاق النزاع في الشرق الاوسط ، وظهور مجموعات اصولية متطرفة مثل داعش والنصرة والتي تعتمد على التمايز الديني والفرز المذهبي وما رافق ذلك من موجة «المقاتلين الاجانب» وسفر مجموعات شبابية ملتزمة للقتال الى جانب دولة الاسلام، شعر العديد ان الهوة بدأت تتسع في المجتمع الواحد بين المسلمين والمجتمع ككل وحتى بين المسلمين انفسهم.
ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي وما ينشر على الشبكات الالكترونية من افلام ورسائل وتوجيه مسيّس دوراً مؤثراً في توسيع الفرز بين السكان وبدأ المعنيون يخشون على صيغة التعددية المتسامحة والمنسجمة.
للاسف الشديد، لم يتمكن مسلمو استراليا من لعب دور مؤثر. وتصرف البعض وكأنهم داعشيون، بينما صدم آخرون ولم يتفاعلوا مع الاصوات من منطلق حماية الذات ضمن المجتمع الوطني ماعدا بعض الاصوات التي استفادت من الفراغ على امل الاستفادة المادية من الاوضاع فلجأ البعض، كل حسب وعيه وثقافته الى التفاعل المتناقض مع غياب منهجية سلوكية موحدة.
ظاهرة الارهاب هذه دفعت حكومة آبوت الى تكييف القوانين الامنية مع التطورات الداخلية واممية الارهاب. واحس بعض المسلمين انهم مستهدفون من هذه القوانين. لكن هدف الحكومة الأساسي هو حماية استراليا والشعب الاسترالي من وقوع اي عمل ارهابي، خاصة ان استراليا اختبرت الارهاب في بالي وسدني وملبورن ودفعت ثمناً غالياً. ولا احد يعلم ما قد  يحمله المستقبل.
آخر العنقود هو بداية ظهور مؤشرات التطرف في بعض المدارس ودور التعليم ومراكز الصلاة. وان ما حدث في مدرسة إيبينغ قد يكون رأس جبل الجليد.
للاسف الشديد ان هذه المظاهر النافر تتسبّب باصدار قوانين جديدة تقيد كل  المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم. فهل سنشهد بداية الانشقاق انطلاقاً من صفوف المدارس، اما ان ما يحدث  سوف يؤدي الى المزيد من التدخل من قبل المؤسسات الحكومية في ما يجري تدريسه وتلقينه للطلاب واعادة تقييم العملية التربوية على اسس جديدة؟ وهل ستؤدي هذه التدخلات الى الالغاء التدريجي لمفهوم التعددية الثقافية بعد ان تحولت بنظر عديدين الى وسيلة لرفض الاندماج في المجتمع والحفاظ على الهويات الأم على حساب استراليا الوطن؟؟

pierre@eltelegraph.com