عباس علي مراد- سدني

تبدو واضحة للعيان هشاشة وضعف وتصدّع الهياكل السياسية في العالم العربي منذ سبعينات القرن العشرين وصولاً إلى الوقت الحاضر.

لا شك أن هزيمة عام 1967 أو ما عرف بالنكسة كانت نقطة تحوّل وتراجع في دور القوى الوحدوية والتي كانت تقودها مصر وحزب البعث الذي حكم في كل من العراق وسوريا.

تراجعت العصبية القومية في العالم العربي لصالح العصبيات الوطنية والتي تراجعت بدورها لصالح العصبيات الطائفية والمذهبية والجهويّة.

كانت البداية من مصر التي وقّعت إتفاقية «كامب ديفيد» إتفاقية السلام مع إسرائيل وتلاها الأردن، إتفاقية «وادي عربة»، وثم منظمة التحرير الفلسطينية «اتفاقية اوسلو» فانتفت صفة العدوانية عن أسرائيل في تلك الدول التي كبّلتها تلك الإتفاقيات.

عجزت جامعة الدول العربية عن الحفاظ على الحد الأدنى بعد أن طُردت مصر منها ونقل المقر إلى تونس، ولم تستطع الجامعة بعد عودتها إلى مصر لعب أي دور في تجديد العصبية العربية بعد أن تحكّم بقرارها ما سُمِي عرب الإعتدال أو عرب أميركا، وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير الموافقة وتهريب قرار الحرب على العراق بعد احتلاله للكويت عام 1990 بعد أن صوّتت الجامعة بالأكثرية لصالح القرار لتشكّل سابقة تاريخية حيث تأخد قرارات الجامعة بالإجماع عادة.

وضع العراق بعد ذلك تحت أقصى أنواع الحصار السياسي، الإقتصادي، التجاري والدبلوماسي في التاريخ، وفُرِض على البلد ما عرف بقانون النفط مقابل الغذاء الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية عبر الأمم المتحدة التي كانت تدار حسب الرغبات الأميركية القطب الأقوى الذي تحكم بتسيير شؤون العالم بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وكان حلف الأطلسي بالإضافة الى ما عرف بالتحالف الدولي الأداة والغطاء الذي تستر به أميركا عورة عدوانيتها وصولاً إلى غزو العراق عام 2003 وتفتيته كيانات جمعها الإحتلال تحت إسم الفيدرالية.

جاءت الإنتفاضات الشعبية أو ما عرف بالربيع العربي في العديد من البلدان العربية لتكمل على ما تبقى من أشكال الدولة كما حصل في ليبيا، وولّدت نوع من الفوضى السياسية في تونس ومصر اللتين عادتا واستطاعتا الحفاظ على الكيان عبر انتخابات ومسيرة طويلة في تونس التي حل رئيسها البرلمان وتولي السلطات التنفيذية مؤخراً في ما اعتبره البعض إنقلاب على الاخوان المسلمين، وفي مصر سيطر الجيش على الحكم في بعد الإنقلاب على حكم الأخوان وسجن الرئيس محمد مرسي (توفي بالسجن) الذي كان ينتمي لحركة الأخوان المسلمين التي فازت بالإنتخابات بعد نهاية حكم الرئيس حسني مبارك.

كانت سوريا تلعب دوراً محورياً في المنطقة العربية واستطاعت من خلال دعمها للمقاومة في لبنان من إخراج المحتل الإسرائيلي من لبنان في أيار عام 2000 دون قيد أو شرط.

لم يرق هذا الدور لعرب أميركا فجاءت عملية اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني في شباط من عام 2005 وما رافقها من تجييش مذهبي فشكلت مقدمة لقرارات دولية وعربية أدّت إلى خروج سوريا من لبنان في 30 نيسان من عام 2005 حيث تعرّضت بعد ذلك إلى حملة تضييق وتشويه منظّم  إلى أن انفجر الوضع وبدأت حرب عالمية على سوريا قادتها أنظمة عرب أميركا بالتعاون مع قوى دولية وإقليمية وخُلق تنظيم داعش المدعوم من تلك المنظومة كما اعترفت هيلاري كلينتون وزيرة خارجية أميركا السابقة.

لعب داعش دوراً تفتيتياً لكل القيم الدينية والإنسانية والثقافية والوطنية والقومية في كل من سوريا والعراق، لكن بفضل الدعم المشترك من كل من روسيا والصين وايران وحزب الله استطاع النظام       استعادة معظم المناطق السورية خصوصاً المدن الكبرى وبقيت ادلب حيث تجمّع بقايا داعش تحت الأحتلال التركي ومناطق الأكراد تحت سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الإحتلال الأميركي.

استمرت حالة الإنهيار العربي حتى وصلت الخلافات إلى عقر دار الدول الخليجية المحمية من الولايات المتحدة الأميركية، فحوصرت قطر من قبل الإمارات والسعودية التي انتقل إليها فيروس الهشاشة والتفكك العربي حيث تدور حرب صامتة بدأت تطّل برأسها بين السعودية والإمارات الطامحتان بالتعاون مع إسرائيل لقيادة ما تبقى من هيكل النظام العربي وفجرتا الحرب على اليمن وادخلته في فوضى وفتت البلد الى محميات سعودية وإماراتية بينما استمر الحوثيين في السيطرة على معظم المناطق الشمالية .

وقع لبنان في فوضى سياسية واقتصادية ومالية غير مسبوقة حسب صندوق النقد الدولي وذلك بسبب الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة والدول الغربية وعرب أميركا من أجل الضغط لإضعاف المقاومة، ولم ينجو الأردن من العبث بالنظام وضرب الإستقرار الإجتماعي والسياسي من خلال ما عرف بمؤامرة الفتنة التي قام بها بعض المقرّبين من النظام السعودي رغم أن الأردن يدور في فلك المحور الأميركي.

لقد كان القرن العشرين واحداً من أكثر القرون من حيث التحولات السياسية على المستوى العالمي حيث هزمت النازية في ثاني أكبر حرب عالمية، وانهار الإتحاد السوفياتي وصعدت الولايات كقطب أوحد يدير عولمة عبر مؤسسات تجارية منظمة التجارة العالمية ومالية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصحية منظمة الصحة العالمية وعسكرية حلف الناتو وسيطرة شبه مطلقة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقراراته إلى أن برز دور صيني- روسي مشترك ظهر جلياً باستعمال الفيتو المشترك ضد قرارات مجلس الأمن خصوصاً تلك المتعلقة بسوريا بعدما خدعت روسيا من قبل الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي في ليبيا بعدم الإلتزام بتنفيذ القرارات الأممية.

لم يكن العالم العربي بمنأى عن كل التحولات التي زادت كما تقدّم في حالة التفكك والتراجع وحتى الإندثار في الوقت الذي استمرّ النهوض في أكثر من مكان في العالم حتى في الولايات المتحدة التي خسرت الكثير لصالح الصين التي تنهض كمارد إقتصادي يبحث عن دور سياسي وكذلك الحال بالنسبة إلى روسيا التي نفضت عنها غبار هزيمة الإتحاد السوفياتي.

إذن، العرب في بداية القرن الحادي والعشرين أمام تحديات وجودية ثقافية، تكنولوجية، جغرافية، ديمغرافية وسياسية فهل سنرى إعادة صياغة لعصبية عربية جديدة تعتمد على عصبية اللغة والثقافة، وثورة ثقافية إصلاحية تبعث الأمل لدى الأجيال العربية، أم ستبقى ألعوبة قوى إقليمية ودولية تحت مسميات دولة فاشية؟! خصوصاً أن تجليات الدور الأميركي بعد ترامب هو إعادة بعث وتمكين الدور الأميركي وجعله وحده يتحكم بالسيادة على العالم إذا ما استطاع الى ذلك سبيلا.

أخيراً، السؤال المحوري، من هي الجهة او الفئة المؤهلة لقيادة هذا التغيير المنشود في ظل هذا التشرذم وانعدام الرؤيا المستقبلية لدى القبائل(الدول) العربية المتناحرة التي نسفت سلطاتها البنى التحتية المادية وهجرت البشرية وترك المواطنين نهباً للفوضى والخوف والجوع والأمية والهجرة والتهجير التي تعتبر أهم أعراض الهشاشة العربية بالإضافة الى قضايا أخرى لا تقل أهمية كالامن المائي والتلوث البيئي وغيرها والتي تحتاج لمعالجة جذرية وليس للتشخيص فقط؟!

هذا التساؤل برسم قوى الممانعة من قومية ووطنية حية حتى لا نقفز في المجهول.