بقلم المهندس نقولا داوود- سدني

انت عجيب أيها الوطن الصغير ،

انت بالكاد تظهر على الخريطة الكونية،

أيها الجبل الأجرد كما وصفك المؤرخ فيليب حتي،

الا ان في سفوحك مغاور ساحرة  مثل جعيتا  وافقا وقاديشا والزحلان ،

ومياه ثلجية ،

وجدران المغاور حيث جاهدت ريشة الخالق وازميله  ،

أيها اللغز الذي لا يفسره المنطق،

أيها القهر الذي ينتهي بالحب ،

والعشق النابع من قلب الألم ،

أيها السر الأقوى من كل واقع ،

ايتها الجغرافيا التي تحتضن الرومانسية الفكرية ،

فلو ملكت المساحات الواسعة خارجها،

احسست بالفقر من دونها،

وكفاية مرقد العنزة فوق الارض ،

وكفاية اكثر ، صندوقا خشبيا في حنايا الارض ، الحلم .

هل تعلقت بالجد والجدة العقلاء والحكماء وهم لا يجيدون القراءة والكتابة ،

وتشعر انهم يعرفون اسرار الكون بالحكمة ،

هل  تعلقت بطفل من صلبك ،

وأحببته اكثر من كل الاطفال لانه لك ، بالبيولوجيا الباطنية العميقة،

وكلما كان مريضا اكثر ، أحببته اكثر ،

وعيناك لا تغمض  طوال الليل وأنت تفكر بالدواء السحري،

وأمراضه متعددة لانه يختصر في جسده الطري والصغير كل  أمراض البشرية المعذبة،

وفكرك يكتسب القوة والمناعة على كثرة التفكير والشقاء والصلاة،

وقد ترتاح الى الأبد وعيناك مفتوحتان بانتظار الترياق لشفاء طفلك،

انت ارض الجدود والأطفال يا وطني ،

وتختصر الحب العميق لمن سبقونا،

ولكل أطفالنا واحفادنا ، او فلذات اكبادنا .

تخيل معي يا عزيزي مهاجرا يعود الى شعبه لينشىء معملا للشنكليش في بلدته كما فعل عصام فارس … انها رسالة حب ووفاء للأرض والإنسان،

تخيل معي  ملك العسل الزغرتاوي الذي  تبرع بإنشاء كنيسة مار يوحنا من تعبه وجهده في المكسيك،

تخيل معي كم ان الحب كان يقض مضجع  ميشال نوفل الذي عاد ليوفي النذر في بلدة جاج الجبيلية وفاء لقرية اكل من حبيباتها ووعدها بالبيادر ،  ووفى بالوعد،

تخيل معي اصحاب  الفكر المتنور الذين رفضوا خيرات الكون ومغرياته ، ليعودوا بقناديل ومصابيح فكرية الى الدساكر والمدارس والندوات الفكرية،

الخلاصة ان جاذبيتك ايها الوطن الحبيب هي أقوى من ان تكون عادية ،

انها اوسع  من الخيال ، وأكثر قوة من إدراك البشر.

قد يعتقد الكثيرون انك أعطيت القليل، لكنك أعطيت الفكر الواسع الرحب،

كفاية علينا، مارسيل خليفة ، وذكي ناصيف، ووديع الصافي،

كفاية علينا الرحابنة وكركلا،

كفاية علينا اصحاب الأفكار النهضوية العظيمة ، والأدباء والشعراء،

كفاية علينا أسواق طرابلس القديمة، وآثارها الرومانية والإغريقية والعربية والمملوكية،

وجبيل مهد الأبجدية والتوراة ،

وبيروت أم الشرائع ولقاء المفكرين،

 وصيدا التي سطرت الكرامة حتى انها احرقت نفسها أمام الشاهد الأكبر أي التاريخ،

 وصور الارجوانية الصامدة أمام الغزاة،

كفاية علينا السفن التي كانت تنطلق في اليم البعيد ، وتعود بالخير …

وبعضها ( للأسف) لا  يستطيع ان يعود،

كفاية علينا كل العقول الفذة التي غادرت الى  المهاجر لتغني العالم الجديد بالمبادرة الفردية الفريدة.

وعلى قارعة طريق الجهاد ظهر الأدب والفن والشعر ،

كنتيجة حتمية لمناخ الحرية المستجد،

وتجسدت حكايات الجهاد  لتشبه الأساطير الخيالية ،

انها الرحلة المعبدة بالدموع والشقاء ،

التي توصل الى الإنجاز وصعود السلالم ،

انها فرحة العصافير المهاجرة الى الأغصان الجديدة،

والكون الجديد ،

حيث يكمن في عمق ذاكرتها غصة مواكبة للفرح،

 وتوق جامح وقاس الى الارض الأصلية ،

وحيث تعلقت الأرواح بالتراب ، والشجر ، والسماء ، والشمس.

كفاية لي انا ان أكون من صلبك،

ستبقى في تكويني وتفكيري ،

اضمك واشد عليك في حنايا صدري،

وسيكون لي الفخر لو وهبتني مساحة صغيرة جدا في  حناياك.