وديع شامخ
رئيس تحرير مجلة «النجوم»
يدرك المتكلم بأية لغة بأن هناك جملة من القواعد النحوية والاملائية والصرفية والشكلية لرسم اللغة كتابة، ربما تتباين مع شفاهية المتداول «المحكي».. فالقواعد تظل صارمة والمحكي يتمدد على الخروقات وأول ثماره «الخطأ الشائع» كجواز مرور لقيمة الحوار الكلامي في تهديم القوانين وإمدادها بنبض الحياة الجديدة.
اللغة أداة عند البعض وهي غاية عند الآخرين..
وحسب اللسانيين فأن اللغة لها مستويان: أحدهما تداولي وآخر دلالي.. فالجانب التداولي هو ما يتحرك به مستخدم اللغة في محيطه الاجتماعي محققاً تفاهماته بلغة واضحة وسهلة الفهم لجميع مستخدمي المستوى الاستعمالي.. أي ان الكلام الشفاهي وهو الذي يكون الأداة الحاسمة عند هذا المستوى.
أما المستوى الدلالي فهومرتبط بانتاج النص الأدبي الجمالي حيث تنتقل اللغة الى مدار المجاز وحقوله المتعددة في الاستعارة والتورية.. الخ.
وهذا المستوى مخصوص بعلاقات بين منتج النص الجمالي والمتلقي وفضاء التأويل وجملة من العلاقات المخصوصة التي ينتجها المستوى الدلالي للغة.
………………………
السلطة وعودتها الى الحزم
وفي كلا المستويين «التداولي والدلالي» لا يخلو من إشكالات الجزم والنهي والتحريم والتجريم، بعضها ينشأ من قوانين اللغة والكلام معاً وآخر ينبع من المحيط الاستعمالي والدلالي معاً.
ففي الكلام العامي «اللغة الشفاهية» هناك أدوات قمع وكبح وعلامات مشجعة للوقاحة والبذاءة والدناءة، مع فيض مقبل من مأثورات القول والحكمة والجمال.
هاتان القوتان في الكلام تتصارعان في الاستعمال حتى يسود أحدهما ويخبو الآخر لتأتي قواعد تتلائم مع هذا الخرق تحت بيان «الأمثال ُتضرب ولا تقاس».. حيث يجري استخدام الكلام على ظاهرة ما وتوصيفها للدلالة على شيء آخر مقصود.
فالمثل العراقي «عرب وين طنبورة وين» يضرب على من يجهل التصرف الصحيح في المكان والزمان الصحيح بينما مبنى المثل يشير الى ظاهر أخرى تماما كأي مثل مبني على ثنائيه: الأولى حدث إنتهى زمنياً والثانيه قياس ممتد زمنياً، مفادها أن رجلاً متزوجاً من إمرأة خرساء وطرشاء «صماء وبكماء» وكان زوجها قد اتفق معها على إشارة ما للممارسة الجنسية بأن يقوم بفرش ردائه على الأرض، وهكذا تتم ممارسة الجنس مع الزوجة طنبورة.
وحدث أن حصل حريق هائل في الحي والنار تلتهم البيوت فأراد الرجل أن يفرش ردائه ليجمع أعز الحاجات في البيت فقامت طنبورة بالاضطجاع لممارسة الجنس!!
في اللغة الفصحى هناك جزم ونهي أيضا ولهما أدوات خاصة تسبق الفعل تنشأ من نظام اللغة النحوي لتنزاح على المستخدمين لها، ولكن المشكلة أيضا تقوم حين يكون «الخطأ الشائع» قاعدة جديدة، والخطأ الشائع يأتي عادة من مزاج المتكلمين الشفاهي لكسر موانع ونظام اللغة النحوي والوصول به الى آفاق رحبة وفضاءات مرنة.
ولكن الفرق في أن الخطأ الشائع في اللغة هو فضاءٌ وليس قفصاً، دلالةٌ وليس دالاً جامداً.. حوارٌ وليس سجناً.
………………………………..
في لغة السلطة هناك أدوات مادية للتعبير أيضا ومنها القوانين المانعة الرادعة المقومّة والمستبدة معا.
أما الدستور الجامع المانع للقوانين ومصدرها فهو عقد اجتماعي حيوي ينظم العلاقة بين المجتمع والحكومة للوصول الى صيغة مثلى لتحديد الحقوق والواجبات وتشخيص العقوق من الطاعة.
ولعل الدول المدنية والمتحضرة هي التي يزدهر فيها الدستور وتوضع القوانين لحماية البشر والحجر والطبيعة جميعا، أما في الدول المتخلفة والاستبدادية سيكون الدستور مؤقتاً دائماً أو موضوعاً في مخازن الحكومات وأجهزتها البوليسية والقمعية، إذ يتقدم السوط للجلد والمسدس للقتل والمشنقة لنشر الرعب.. والنظام للترهيب والترغيب معاً.
والسلطة تنتج مخرجاتها القمعية عندما تكون صنيعة نفسها، تخلق قوانين وجودها من ذاتها، تتكرش بها وعليها.
وسوف تكون هذه الدول وحكوماتها المستبدة تمارس النظام اللغوي بكل ما يحمله القاموس من أدوات الجزم والحزم والنهي والنفي، فترى قوائم الممنوعات تتسيد الحياة.
وتكون «لا ولن ولم» ثلاثية مقدسة في الحياة الاستبدادية، وهذه الثلاثية تمتد الى الحياة بكل مفاصلها لتكون مثابة سيف ومشنقة وهراوات وأقبية وسجون ومقابر فردية وجماعية.
…………………………..
اللغة لا تنتج سلطة قامعة إلا اذ إقترنت بمفهوم قمعي تتبناه سلطة واقعية، وهذه السلطة التي ينتجها المجتمع حتما مع بعض الفروضات الخارجية.. تستثمر كل الممكنات المتاحة للوصول الى الهدف، وبما أن اللغة هي المشترك الحاسم في مشتركات العيش المجتمعي، لذا تقوم السلطة القامعة في توظيف المشترك الحاسم لتوصيل رسالة واضحة للجميع.. بلغتهم وضوابطها. نواهيها وجوازمها.. رسالة الدولة القمعية تقوم على استثمار الخوف الهلع والفزع في نظام اللغة المشتركة وتوظيفها كوصايا فحواها الثلاثية المقدسة «لا، لم، لن».
اللغة بريئة من عنف استخدامها كبراءة السكين من القتل. لأن قوانين اللغة ونظامها شائع للجميع ولكنها ليست معنية بالنوايا.