مجد بو مجاهد

تستعيد الانتفاضة أنفاس زخمها عبر تحرّكات مكوكيّة متنوّعة على الأرض في وقت تتصاعد فيه الأسئلة حول ما اذا كانت البلاد أمام استكمال جزءٍ ثانٍ من المشهد المنتفض أو ربّما أمام مرحلة جديدة تختلف فيها سبل المثابرة نحو التغيير، أم أنّها مجرّد أنشطة رمزيّة لم تصل حدود القدرة على استعادة وقع الانتفاضة وأيام عزّها؟ تختلف الأجوبة الشعبية على هذا السؤال، اذ ثمّة من يعوّل على عودة الانتفاضة في مقابل من يعتبر أنها باتت ذكرى. ويبدو أن التحدي الأوّل للانتفاضة يبدأ من داخل بيتها في القدرة على توحيد صفوف المجموعات وتخطي التباينات والانطلاق بورقة سياسية موحّدة، علماً أن مبادرات متقدّمة تنشط في الكواليس ومنها العمل على إعداد “ميثاق الثورة” ومحاولة دمج المجموعات في إطار تنظيميّ أكثر تماسكاً… لكن تبقى العبرة في النجاح الداخلي.
استطلعنا آراء أساتذة جامعيين واكبوا الانتفاضة منذ نعومة أظفارها، وشكّلوا جزءاً منها وعنصراً داعماً لها، مستوقفةً مقارباتهم العلميّة حول مستقبل الانتفاضة بين الزخم المتجدّد والتحديات المتراكمة.
يصوّر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الاميركية في بيروت ميشال الدويهي الزخم المستعاد على أنّه عودة الى ميدان السياسة، علماً أن التحرّكات تساهم في رأيه بشدّ العصب لكنها لا تصرف في نتائج على الأرض. ويبقى التنسيق بين المجموعات الناشطة هو العامل الأساس لانتاج خطّة عمل للمرحلة المقبلة بغية التحضير للاستحقاقين الانتخابيين النيابيّ والبلديّ. وتُترجم العودة من خلال التنسيق السياسيّ بين المجموعات الذي يعتبر خطوةً أساسيّة تُجنّب تكرار أخطاء حراك 2015 وانتخابات 2018 النيابيّة.
يرى الدويهي أنّ “وعي المجموعات موجود لأخطاء ادارة الحراك السابقة منذ انطلاقه، ذلك أنّه لا يمكن إدارة الأمور في السياسة كما في المراحل السابقة لأن البلاد انهارت والخصم السياسيّ متمرّس وشرس ولا وقت للتعامل بخفيّة سياسيّة وعدم تنظيم الأوضاع ما يشكّل جزءاً من إهداء الانتصار للطبقة السياسية الحاكمة. ويكمن العنصر الأهم في التفهّم والوعي واستيعاب الآخر ضمن المجموعات ولمّ الشمل تحضيراً للانتخابات، والاستعداد لأيّ استحقاق انتخابيّ مبكر”، مشيراً الى أنّه “اذا كان ثمّة تنسيقُ بين الناشطين ونضج في التعامل، إلّا أنّ المسألة تحتاج الى ضبط في ظلّ كثرة المجموعات، فيما يتمثّل التحدي الكبير في التوصل الى ورقة سياسية وخطة عمل سريعة ومعطيات دقيقة في سرد المعطيات التاريخية، في وقت لا بدّ فيه من الاتفاق حول وضع عنوان للاشتباك السياسي مع كلّ المنظومة عبر رؤية سياسية لحكم البلد رغم تنوّع طروح المجموعات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. وتكمن مسؤولية المجموعات في القدرة على إقناع اللبنانيين بأن الانتفاضة تشكل مشروع حكم في وقت لم تبرز فيه الرؤية السياسية حتى اليوم. وأعتقد أن الخطأ الذي ارتكب قبل أشهر هو في عدم التوصل الى اسم مرشّح الثورة لرئاسة الحكومة وأسماء الفريق الوزرايّ، لكن لا يمكن النظر الى الوراء اليوم ويمكن أن تفرض التحرّكات واقعها في أيّ لحظة”.

بدورها لا ترى أستاذة التخطيط المدني في الجامعة الأميركية في بيروت منى فوّاز أن التغيير بدأ في 17 تشرين بل إن الحركة المطلبية تكبر في لبنان، فيما كلّ حركة تستقطب مناصرين أكثر، لكنّ هذه الحركات لم تنجح حتى اللحظة في تشكيل بديل لاستلام السلطة. تتلمّس فوّاز وعياً في تشخيص المشاكل فيما يبقى حدث 17 تشرين محطّةً مهمّة يمكن أن تتّخذ شكلاً تنظيمياً جديداً يفرض نفسه بطريقة مختلفة.
تقول فوّاز “إننا بدأنا نستشعر بوادر يُفترض أن تعطينا أملاً بعد مسارٍ متهوّر أخذتنا اليه الطبقة السياسية بعدما أنفقت مبالغ طائلة مدى عقود كان لها أن تساهم في ازدهار البلاد لا في افلاسها. وألاحظ نضوجاً في الرؤية واستعداداً من قبل طلّابي للمشاركة في التحرّكات المطلبيّة، وقد كان لانتفاضة 17 تشرين صدى غير متوقّع في ظلّ مطلب أساسي يتمثّل باسقاط النظام الطائفي الذي سُمع على لسان كلّ الناس، لكنّ التغيير ليس خطّ أوتوستراد بل فيه محطّات تقدّم وتراجع”، مضيفة: “لست متأكّدة أنّ المجموعات ستمثّل التغيير بنفسها، اذ ثمّة من بينها من ليس متواضعاً كفاية. ونأمل أن تنضج الطروح في المرحلة المقبلة، لكنني لا أؤمن أن المسألة أشبه بأمير تغييريّ يأتي ليحقّق الخلاص لأنّ الحركة التغييرية معقّدة أكثر من ذلك. ويبدو أنّه أصبح لدى مكوّنات المجتمع استعداداً للمحاسبة والرفض وأن الصوت بدأ يسمع، وهناك شعور لدى الطبقة السياسية بأن الجمهور يراقب”.

يركّز الأستاذ المشارك في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت جاد شعبان في مقاربته على عامل الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة الضاغطة المؤدّية في رأيه دوراً مضادّاً لأيّ تغيير ديموقراطيّ، إذ يقلّل الضغط المعيشيّ من القدرة على التظاهر والاكباب على النشاط السياسيّ.
ويرى شعبان أن “العنف المتّبع من قبل السلطة والأسلوب المنتهج في وتيرة التحقيقات مع الناشطين التي اتّخذت طابعاً عنفيّاً في المرحلة الأخيرة، عوامل أدّت إلى ضغط أمنيّ وسط عدم توافر أفق للحلول وفي ظلّ عدم تحقيق جدوى من التحرّكات ما طرح اشكاليّات حولها، لكنّ ذلك لا يمنع في الموازاة من أن يساهم وضع المواطنين الاقتصادي المذري وانسداد الأفق السياسيّ في ردّة فعل تغييريّة بطريقة هادفة. أعتقد أنّه ليس من الممكن استرجاع مشهد أواخر سنة 2019 التي شهدت على تحرّكات نوعيّة وعلى وحدة وطنيّة، اذ يبدو أنها مرحلة انتهت وهذا لا يعني البكاء على الأطلال. عادت الأحزاب بقوّة في فترة جائحة الكورونا، ونشهد اليوم خطاباً عنفيّاً وتتصاعد المخاوف من انفراط البلاد باتجاه انهيار اجتماعيّ يؤدّي الى حرب أهلية بين الناس، ذلك أنّ استفحال القلّة في ظلّ انقطاع مداخيل الأحزاب واعلان الافلاس الرسميّ، يعني الذهاب الى سيناريو انهيار اجتماعيّ يشجّع الناس على الاتجاه نحو الأضدّاد بدلاً من تبنّي خطاب متّزن”. ويخلص الى أنّه “يتوجّب على جهات الثورة أن تشكّل ائتلافاً وطنيّاً كبيراً يضمّ المجموعات من يمين الثورة الى يسارها في وقت سريع. هناك مجموعات تنظّم نفسها لكن لا تزال صغيرة، وهناك مجموعات أخرى تدخل في نوع من الانعزال ولا تريد التحالف في مروحة أوسع ولا توافق على الاندماج وهي ليست ديموقراطية في ممارساتها. ويكمن الحلّ في اعادة الاعتبار للممارسات الديموقراطية والاحتكام الى المنافسة الشريفة”.