منذ خطبة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان التي اشعلت نارا في هشيم العلاقات «التآمرية» بين الطوائف اللبنانية، بدا ان القوى السياسية بدأت تنزلق شيئا فشيئا في المنحدر الذي دفعت خطبة قبلان الآخرين الى النزول فيه، ولا سيما ان الأجواء في البلاد مهيأة تماماً لهذا النوع من النزاعات بعدما أوصل كل من المشاريع الطائفية لبنان الى حافة الانفجار الداخلي. فمن الواضح ان كلام المفتي قبلان ما أتى من فراغ، وهو بالنَّفَس الذي أتى به أوحى ان فريقا في البلاد قرر ان يلعب ورقة «الغالب والمغلوب» بشكل علني، وإن يكن الأمين العام لـ»حزب الله» الذي يدير اللعبة من المقعد الخلفي، قال بالأمس ان تنظيمه المسلح لا يريد ان يحكم البلد، فيما هو يحكمه بالفعل وبالملموس. ومَن دقّق في كلمات الشيخ قبلان التي تنصّل منها رئيس مجلس النواب نبيه بري من دون ان يناقضها بشكل حاسم، تذكَّر بوضوح الرسالة الإيرانية التي نقلها مدير المخابرات الخارجية الفرنسي الى الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، إبان حرب تموز 2006، حين تحدث المسؤولون الإيرانيون علناً وللمرة الأولى عن إشكالية حجم الشيعة في النظام اللبناني، وضرورة منحهم ما يوازي حجمهم الحقيقي في المعادلة، وخصوصا في ظل موازين القوة على الأرض. ارسل الإيرانيون الرسالة الى الطرف الفرنسي في وقت كان الطيران الإسرائيلي يزرع الخراب والدمار في لبنان، وفي وقت كان «حزب الله» يستجدي وقفاً لاطلاق النار، وفي الوقت الذي كان عدد الضحايا اللبنانيين بلغ الألف فيما كان الإسرائيليون يتوغلون في الأراضي اللبنانية بعد طول تردد عند «الخط الأزرق»، وكان خوف الإيرانيين انه اذا هُزم «حزب الله» في الحرب فيجب تسييل ما تبقى من قوته على شكل مكاسب في النظام اللبناني. انتهت الحرب بصمود الحزب، وخراب لبنان، وإعلان السيد نصرالله الانتصار، مما مكّنه في ما بعد من مواصلة الهجوم الداخلي على القوى الاستقلالية، من خلال ضرب النظام وتقويضه مع مؤسساته من الداخل، من الحكومة، الى مجلس النواب وصولاً الى الشارع في غزوات 7 و11 أيار! ومنذ ذلك الوقت بدأت البلاد في مسار انحداري، من «اتفاق الدوحة» الذي اطلق مسيرة تجويف الدستور، و»اتفاق الطائف» وصولاً الى تعطيل انتخابات الرئاسة، وانتهاء بايصال مرشح الحزب والمحور الذي ينتمي اليه الجنرال ميشال عون الى قصر بعبدا، وبقية القصة معروفة.
ما أثارته خطبة الشيخ قبلان من بلبلة بسبب لهجتها القائمة على الغلبة وتناقض مضمونها مع واقع ملقيها، لا يقل سوءا عما زرعه الجنرال ميشال عون من احقاد في البلد منذ عودته سنة 2005، باللعب على الغرائز الطائفية والمذهبية، ونبش القبور استكمالاً لحروب الثمانينات من القرن الماضي، وصولاً الى خطاب الكراهية الذي تفوّق فيه مع بطانته قبل انتخابه، واستكمله وريثه المعلن بشكل كبير. والآن ترقص البلاد على وقع جنون فائض القوة لدى البعض، وحماقة سياسات الابتزاز الرخيصة لدى البعض الآخر. وبين خطاب الغلبة، وخطاب التقسيم في زمن الانهيار المالي والاقتصادي، ووباء كورونا، ومع المستسلمين الصامتين الخائفين، فإن أيام لبنان السوداء ستطول كثيراً.