لا جمالية في رمضان تضاهي تلك المنطبعة في طرابلس، وهي بلا شك نجمة الاستقطاب الأولى لما يصحّ تسميته بـ «السياحة الرمضانية». وتالياً، لا خسائر، معنوية ومادية، تضاهي تلك التي تعيشها طرابلس في هذا الموسم الذي انتظرته طوال سنة لينتعش اقتصادها ومزاجها الاجتماعي المتهالك. «كورونا» كسرت إبرة الكولاجين هذه، لا سيما في قطاع المطاعم، وتحديدًا المتخصصة في المطبخ الشرقي الذي تلقى ضربة يعتقد المتضررون بأنها «قاضية» على هذا القطاع المحوري في نبض المدينة واقتصادها.
تقاعس حكومي ووزاري
في ضوء هذا التدهور، كانت نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان أصدرت أمس بيانًا يعبّر عن إفلاس على كل الصعد، معلنة عن «تشييع» هذا القطاع في لبنان.
عضو مجلس إدارة النقابة وصاحب مطعمي الحاج علي و La plaka في طرابلس، مصطفى الصمد، يعبّر بغضب وخيبة عن مآل مطالب النقابة التي لم تألُ جهدًا منذ تفشي الوباء، في متابعة أوضاع القطاع لتخفيف حدة الخسائر. ويصوّب مسؤولية على وزارة السياحة، قائلاً: «كنا نتابع باستمرار مع وزارات المالية، والاقتصاد، والعمل والشؤون الاجتماعية والسياحة، ولم نجنِ سوى التسويف. كنا موعودين بإعفاءات ضرائبية وتقسيط في الدفعات وقروض ميسرة، وكذلك بالضغط على ملاكي الأراضي في «الضم والفرز» التي تضمّ واجهة المطاعم المرفهة والحديثة في طرابلس، لجهة عدم التشدد والاستمهال في تسديد بدل ايجارات الأراضي. لكن الخطة الاقتصادية للحكومة لم تلحظ أياً من مطالبنا».
وعن متابعتها، يضيف «تدرجت مطالبنا في 14 بندًا ضمن كتاب اقتراحات قدّمه وزير الشؤون الاجتماعية والسياحة رمزي المشرفيه. إلا أن الحكومة تجاهلتها بالكامل. وحين حاولنا أخيراً تجديد متابعة الملف، لم نعد نلاقي أي تجاوب».
إجحاف المواقيت والأمن
ويعتبر الصمد أن وزارة الداخلية والبلديات لم تراعِ المنطق في مواقيتها لفتح المطاعم. هذه الأخيرة ملزمة على التسكير الساعة السابعة مساء، فيسأل «كيف نستفيد من هذا الاجراء، فيما الإفطارات تبدأ منذ السابعة والنصف وتمتد تجمعاتها لما بعد منتصف الليل»؟ وفي دور الوزارة، يلحظ أن أداء القوى الأمنية يكيل بمكيالين «كلنا يلمس ويفهم ويتعاطف مع مالكي المقاهي جميعهم ودون استثناء، ونتمنى للجميع ألا تتسكر أبواب الرزق. ولكن، كيف نفسر تراخي القوى الأمنية مع مقاهي المناطق الشعبية التي تبقى مفتوحة حتى الفجر، فيما تفرض سيطرة حديدية على مطاعم الضم والفرز؟ لقد جرى أخيراً تغريم مقهيين في هذا الشارع، فيما مقهى ملاصق لسرايا طرابلس يكتظ برواده بدون أدنى شروط الوقاية، بقي معصوماً من قبضة الأمن».
الدولار أم كورونا؟
منذ اندلاع ثورة تشرين، بدأت لعبة الدولار البهلوانية بإغراق هذا القطاع في مآزق غير مسبوقة، بدءًا بكلفة التشغيل وليس انتهاءً في المعاشات. يقول الصمد: «المشكلة أنّ المورّدين لا يقبلون تقاضي المال سوى بصيغة فورية وبالدولار. تكلفة المواد الأولية حلقت بشكل جنوني، فاستبعدنا عن قائمة الأصناف أطباقًا كثيرة باتت تشكل خسارة، وهي أصبحت تتخطى قدرة الزبائن». ويتابع «قبل أن تطلق عقيلة الرئيس دياب نداءها بتشغيل اليد العاملة اللبنانية في الخدمات الصغيرة، كنا نحرص على إفادة عمال لبنانيين وأسرهم. اليوم، كيف بمستطاعي الايفاء بمعاشات تراوح بين 500 ألف ومليون ليرة للعامل؟ كان ينبغي أن يشفع هذا الاقتراح بحلول قابلة للتنفيذ. حلول تدعم من يلتزمها».
بدوره، يؤكد صاحب مطعم «دار القمر»، فيصل البقار، أن الأزمة بدأت منذ انهيار الليرة وكورونا ضيقت على المطاعم عنق الزجاجة التي باتت بلا منفذ منظور، أو منتظر.
يعكس فيصل البقار فداحة الواقع بإيجاز وبلاغة الأرقام، فيقول: «خسائر المبيعات بلغت منذ شهر آذار 80%، وتستمر في رمضان بحيث لم تستقبل صالاتنا أكثر من 20% من الزبائن المعتادين. أما خسائرنا في الأرباح فبلغت 100% وهي بالكاد تغطي كلفة التشغيل ومعاشات بعض الموظفين».
ويورد مثالاً عملياً «تضمن استمرارية المطعم ربحًا يعادل 25 ألف دولاء شهريًا، أي 100 ما يساوي اليوم مليون ليرة لبنانية. وهذه الأرباح تحققها مبيعات بقيمة 400 مليون ليرة، والتي تفرض استقطاب حوالى 8000 آلاف زبونًا خلال الشهر. أين نحن من هذه الأرقام في ظل التعبئة؟»، ويتابع «في أحسن الظروف، هذا الربح يختفي عند وجوب الصيانة ولدى حدوث أي ضرر تقني. لكننا نحاول الصمود لأن لا خيار لدينا سوى الصمود».
آليات التكييف
وحول آليات التكييف مع «كورونا» التي يعتمدها المطعم، يشرح البقار «لأننا نعاني تدهوراً كارثياً وقلة في الزبائن، اضطررنا لتقليص عدد الموظفين. والمعيار الأقل ظلماً، رددناه لأولوية الصحة، فتخلينا حالياً عن خدمات الموظفين القاطنين في قرى وبلدات ينتشر فيها الوباء». ويضيف معياراً ثانياً «نحاول قدر الامكان مراعاة الحاجة للمدخول. الجميع بحاجة للإنتاجية، ولكن أرباب الأسر أكثر من سواهم».
في هذا السياق، يقول القيّم على مطعمي «بيتنا» و»بيتنا اكسبرس»، حسن البقّار «توجّهنا لخلق معادلة جديدة في الأصناف والفوترة تراعي المواطن وتجنبُنا الخسائر قدر الإمكان. إشارة الى أن الشروط القانونية في «كورونا» تلزم عدم استقطاب أكثر من 30% من قدرة المطعم الاستيعابية. ولكنها نسبة لا تحتاج لسيطرة القانون، فالإقبال نادر، والصائمون لا يملكون رفاه الإفطار في المطاعم في ظل تدهور قيمة الليرة الى ثلثها».
ويصف خسائر رمضان بالقول «إنها حلقة استهلاكية لا تعتمد فقط على الأفراد. فمن المعروف أن مطاعمنا تستقبل إفطارات الشركات والنقابات والجمعيات. مطاعمنا خسرت خلال رمضان كل هذه المناسبات الاجتماعية، علاوة على الأعراس والخطوبة».
وحدها خدمة «الديليفري» (خدمة التوصيل) تنجو من تسونامي المطاعم خلال كورونا، فيلفت أنه «في التدابير الأخيرة، منعت الحكومة الخدمة ثم سمحت بها. ولحسن الحظ، استطعنا الاعتماد خلال رمضان على خدمة «الديليفري» المتعلقة بالمعجنات المثلجة والأطباق الجاهزة»، معتبرا أن هذا التعكيز يبقى موقتاً وهامشياً أمام السقوط المدوي للمطاعم.
تهاوي الطبقة الوسطى
هذه المطاعم في «الضم والفرز»، كانت خلال العقد الأخير مظهرًا نخبويًا في معيار طرابلس، التي احتضنتها في واحد من المجالات الأكثر رفاهية، الذي يبدأ عند مدخلها الجنوبي ويمتد حتى منطقة المعرض، وهي مستقر ساسة وكبار الميسورين في طرابلس.
في السابق، كانت هذه الأراضي بساتيناً لليمون والبرتقال، ثم حولها الامتداد العمراني الى مجال مأهول بالبنايات، وجعلتها المطاعم المتراصة على طولها شرياناً خدماتياً لعله الأبرز في المدينة.