استقبل العالم العام الجديد بالدعاء ان تنعم الدول بالسلام والازدهار، بعد ان خيمت على العام الماضي اجواء من القلق واحداث تؤكد ان الاوضاع العالمية ليست كما يتمناها العديدون.
فبداية السنة الجديدة ٢٠٢٠، لا تعني اننا طوينا صفحة الاحداث والآلام والمخاوف، بل ستكون استمراراً للعديد من التطورات والاشكاليات التي شهدها العام الماضي.
فلبنان لا يزال يعاني من اضمحلال الدولة وغياب الحكومة والاحتجاجات الشعبية التي سببتها المنظومة السياسية الحاكمة والفاسدة، وسوريا لا تزال تحت الاحتلال من قبل عدد من الدول والجيوش الاجنبية. كذلك تعاني العراق من موجة الاحتجاجات القاتلة ومن وجود جيوش وقوى اجنبية ومن فساد الطبقة الحاكمة.
و لا يخلو وطن عربي من ديمومة القلق وعدم الاستقرار، ومنذ عقود طويلة. لكن الحدث الذي يثير الاهتمام، هو عملية اغتيال قاسم سليماني في العراق، وما تلاه من تطورات تنذر بالمزيد من التأزيم في المنطقة.
قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني، قاسم سليماني جرى اغتياله وقتله مع تسعة آخرين بصاروخين من طائرتي «درون» مسيّرتين، فجر 4 كانون الثاني، قرب مطار بغداد، كما اتضح من تقرير معزّز بشريط فيديو وصور بثتها شبكات التلفزيون الاميركية والعالمية وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي.
عملية تصفية قاسم سليماني ادخلت المنطقة في حلقة جديدة من النزاع المباشر بين الولايات المتحدة وايران. فاطلقت ايران وحلفاؤها سلسلة من التهديدات للوجود الاميركي في الشرق الاوسط. تلا ذلك قيام ايران بشن هجمات صاروخية على قاعدة عين اسد، احدثت اضراراً في بعض العنابر دون ان توقع اصابات في صفوف القوات الاميركية المتمركزة فيها.
فرد الرئيس الاميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على ايران التي تعاني اصلاً من العقوبات السابقة. كما دعا ترامب دول الناتو ان تشارك بشكل اكبر في عملية السلام في الشرق الاوسط.
فما هي الدوافع الكامنة وراء تصفية قاسم سليماني الذي قال عن نفسه انه يحكم اربع عواصم عربية، وما هي السيناريوهات المحتملة للمنطقة؟ وهل اتخذت الادارة الاميركية قراراً معاكساً لسياسة اوباما، يقضي بمحاصرة ايران واخراجها من المنطقة؟
– خلفيات اغتيال قاسم سليماني
اطلقت العديد من النظريات حول حادث تصفية قاسم سليماني. فاعتبر البعض ان عملية اغتيال قائد فيلق القدس جاءت نتيجة صفقة بين اميركا وايران لاعادة تموضع القوات الايرانية والتخفيف من العقوبات الاقتصادية. بينما يرى آخرون ان اغتيال سليماني سيخلق سياقاً جديداً وتحولاً في الاستراتيجية الجيوعسكرية في منطقة الشرق الاوسط، بعد ان اتخذت الادارة الاميركية الحالية قراراً معاكساً لسياسة اوباما، يقضي بمحاصرة ايران واخراجها من المنطقة.
فالعنوان اليوم هو محاصرة ايران لكي تعود المنطقة الى واقع مختلف. وهذا لا يعني ان انهيار الفصائل الايرانية سيقابله انتصار للفصائل المناهضة لايران. لكن على العكس سوف يجري، من الآن وصاعداً تجييش المجموعات المناوئة للحكم في ايران ولبنان والعراق وسوريا، وعلى الاراضي الايرانية.
– اسباب تصفية قاسم سليماني
سلسلة المحطات التي ادت الى اغتيال قاسم سليماني هي عديدة. لكن اهمها هو إلغاء دونالد ترامب الاتفاق النووي مع ايران وإنسحاب الولايات المتحدة منه. وكانت ايران قد تلقت 130 مليار دولار نقداً، ايام حكم اوباما، لتشجيعها على العودة الى احضان المجتمع الدولي ودفعها للالتزام بالقرارات الدولية، مكافأة على توقيعها على الاتفاق النووي عام ٢٠١٥.
واملت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ان تساعد هذه الاموال ايران على الانفتاح على العالم الخارجي، وعلى الانطلاق في عملية بناء البنى التحتية وتحسين الاوضاع المعيشية في البلاد، ودعم الاقتصاد والحياة الديمقراطية في ايران، لكي تعود الى دولة طبيعية كسائر الدول. لكن المجتمع الدولي اصيب بخيبة امل، اذ استخدمت ايران هذه الاموال الطائلة لدعم تمددها العسكري، خارج ايران، وخلقت المزيد من التنظيمات المسلحة ونشرت الفوضى في العديد من دول الشرق الاوسط. وكان لقاسم سليماني الدور البارز في هذه الانشطة المعادية. واكد السيد حسن نصرالله في ظهوره الأخير على الدور المميز الذي لعبه سليماني في لبنان خلال حرب ٢٠٠٦ وحرب الجرود وفي نشاطات عسكرية اخرى، اعتبر البعض انها تشمل ايضاً عمليات اغتيال العديد من الشخصيات اللبنانية المناوئة للوجود السوري والتمدّد الايراني في لبنان.
هذا الخلل الاستراتيجي دفع الرئيس الاميركي ترامب الى فرض عقوبات مشددة على ايران لحملها على التفاوض حول سلوكها السياسي وتمددها العكسري على حساب دول الجوار، وارغامها على التوقيع على اتفاق شامل يتعلق بالطاقة النووية والامتناع عن تسليح المنظمات الموالية لها، خارج ايران، والتي تأتمر بتوصيات ولاية الفقيه وتعمل على تحقيق الاهداف التوسعية لايران وتمددها عسكرياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزه وغيرها…
– السجل الحافل
لم تبادل ايران الولايات المتحدة العلاقات الطيبة، رغم ان الادارة الاميركية، على مدى عهود ساعدت على قيام الجمهورية الاسلامية ومهدت الطريق لآية الله الخميني لاستلام الحكم في البلاد. اذ دعا الرئيس كارتر شاه ايان للتخلي عن الحكم ومغادرة البلاد، ثم اطاحت الولايات المتحدة بصدام حسين وسهلت سيطرة ايران على العراق.
بالمقابلة، بنت الجمهورية الاسلامية صورة نافرة ورديئة عن الولايات المتحدة، فوصفتها بالشيطان الأكبر، واحتجزت موظفي السفارة الاميركية في طهران.
وكرت سبحة الاعتداءات على الوجود الاميركي في الشرق الاوسط. فاسقطت طائرة درون اميركية، وبدأت تتحرّش بالسفن التجارية في الخليج واحتجزت بعضها، وهددت الملاحة التجارية، واطلقت صواريخ على شركة آرامكو السعودية.
وبدأت ايران تهدّد القواعد الاميركية في العراق، بواسطة الميليشيات التابعة لها، لتعود وتغسل يديها بحجة ان لا علاقة لها بهذه الاعتداءات. ونفذت هذه الميليشيات اكثر من هجوم عسكري على قواعد اميركية داخل العراق، مما دفع الرئيس ترامب الى اصدار اوامر لضرب بعض القواعد التابعة لحزب الله العراقي.
كما وقع هجوم على السفارة الاميركية في العراق بمشاركة ودعم مباشر من قبل الحكومة العراقية. لذا اعتبرت ادارة ترامب ان الدولة العراقية هي مشاركة في هذا الهجوم، وان الطبقة الحاكمة اصبحت تابعة وعميلة لايران. وحملت المسؤولية لقاسم سليماني، الحاكم الفعلي لأربع عواصم عربية حسب ادعائه.
هذا العمل العدائي خطط له قاسم سليماني. فالهجوم على السفارة الاميركية يعتبر هجوماً على ارض اميركية.
هدّد ترامب رئيس الوزراء العراقي بالقضاء على جميع المهاجمين وعلى الطبقة الحاكمة في العراق. وكان ترامب جاداً في تهديداته، ملتزماً بقراراته وتعهداته. لم يكن يرغب ترامب ان تتكرر مرة اخرى حادثة احتجاز الاميركيين في طهران او السماح بالاعتداء على الطاقم الديبلوماسي الاميركي كما حدث فلي بنغازي وطرابلس ليبيا وبيروت.
– سليماني حاكم العرب بإسم ولاية الفقيه
ووردت معلومات بدت شبه مؤكد ان قاسم سليماني وضع خطة عسكرية لشن هجمات على الوجود الاميركي في لبنان والعراق.
واثر استقالة رئيس الوزراء العراقي، ارغم سليماني العراقيين على اختيار رئيس وزراء جديد، هو عميل ايراني، رغم احتجاجات المتظاهرين. كما علم انه وضع خطة لشن هجوم على السفارة الاميركية في العراق واحتجاز العاملين فيها، وتحويلها الى مركز للقيادة الايرانية.
هذه الاهداف اعتبرها ترامب مهمة عسكرية عدوانية تستوجب الرد السريع عليها في عملية استباقية. المشكلة الأخطر تكمن في النظام العراقي القاتم. فبعد ان قضت الولايات المتحدة على نظام صدام حسين وعملت على وصول الشيعة الى السلطة ومكنتهم من حكم العراق للمرة الاولى في تاريخ البلاد على مدى ١٤٠٠ سنة. لكن ايران نجحت في زرع عملائها داخل السلطة العراقية، فاصبحت الطبقة السياسية الحاكمة هي عميلة لايران وليست عميلة او متناغمة مع الولايات المتحدة. واصبحت تعادي اميركا وتمعن في الفساد وفي نهب خيرات البلاد. طبقة فاسدة تحكم العراق بدعم من ايران اليوم تبيع العراق ٤ ملايين برميل نفط يومياً، والشعب العراقي يعيش حالة من الفقر.
هكذا تحول النظام العراقي المدعوم من ايران هو المعضلة الرئيسية، خاصة منذ عام ٢٠١١ عندما بدأ الحكم يطالب بانسحاب القوات الاميركية من العراق بإيعاز من ايران، بينما دعا السنة الى بقائها في البلاد،.
التحول هو التالي، في ٢٠٠٣ تذلّل شيعة العراق للاميركيين لمساعدتهم على التخلص من صدام حسين، فيما عمد السنة الى محاربة الولايات المتحدة بواسطة التنظيمات الاصولية، وفي طليعتها داعش، في ٢٠١١ خرج الاميركيون من العراق وقلّصوا وجودهم العسكري فيها. في ٢٠١٤ طالب الشيعة مجدداً تدخل الولايات المتحدة والقوات الحليفة لمؤازرة النظام على مكافحة قوات داعش والقضاء عليها. وكلفت عملية القضاء على داعش عشرات المليارات من الدولارات والآن يرفض السنة والاكراد انسحاب اميركا من العراق بينما يطالب الشيعة بخروجها.
– ملاحظات
احداث ١١ ايلول شكلت نقطة تحول جوهرية ومنطلقاً لحرب الدول الغربية على الارهاب السني الوهابي.
اليوم، ومع تصفية قاسم سليماني يمكن اعتبار هذا التاريخ حرباً جديدة على الارهاب الشيعي، بعد ان تعدت ايران الخطوط الحمراء، وان لم تعد ايران حساباتها، وتراجع سياستها في المنطقة، فانها ستواجه دون شك حرباً مشابهة لحرب الغرب على داعش وعلى التطرف السني.
ايران التي بدأت سياستها وفرض نظام الأئمة هيمنته عليها من خلال «شيطنة» اميركا وتعميم العداء للغرب واستهداف المصالح الاميركية. اميركا لم تعاد ايران منذ ثورة الخميني واستلامه الحكم في البلاد وتغيير النظام فيها، لا بل دعمت الولايات المتحدة النظام الجديد في اكثر من مناسبة.
اليوم، يبدو ان هذه المعادلة بدأت تتغير بعد ان استفادت ايران من حروب اميركا في المنطقة.
ويبدو ان العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة قرر وضع حد للنظام الفاسد في ايران والذي سعى خلال عقود الى تغيير الانظمة في البلدان المجاورة. من هنا يفهم تصميم ايران على اخراج القوات الاميركية من المنطقة لاحكام سيطرتها على دول الجوار .
من هنا تفهم دعوة السيد حسن نصرالله لإستهداف الوجود الاميركي وارغامه على الرحيل.
– مهمات قاسم سليماني
قاسم سليماني، حسب الادعاءات الاميركية تسبّب بمقتل ٦٠٨ اميركيين في العراق. وهو بالتالي المسؤول المباشر عن هذه العمليات كونه الرأس المسؤول عن فيلق القدس الذي يتحكّم بالقرارات السياسية والاعمال العسكرية خارج ايران، وفي طليعتها العراق.
وسليماني هو ايضاً المسؤول عن قتل ما يزيد على ٦٠٠ متظاهر عراقي وجرح الآلاف، بواسطة الميليشيات العميلة التابعة لإيران.
وقاسم سليماني هو المسؤول الاول عن كل الفوضى التي حصلت في العراق، وعن عمليات نهب خيران البلاد من قبل المجموعة الحاكمة الموالية لايران، عملاً بمقولة افسدوا ما شئتم لكن امنحونا ولاءكم وخذوا السلطة والمال . وهي نفس الفلسفة المعتمدة في لبنان.
الاعتداءات الايرانية على الولايات المتحدة بدأت في بيروت عام ١٩٨٣ عندما استهدف حزب الله السفارة الاميركية ثم جرى تفجير مركز المارينز والقوات الفرنسية في بيروت.
وتلا ذلك استهداف السفارة الاميركية في الكويت عام ١٩٨٣ وقتل فيها ٥ ديبلوماسيين. ثم الهجوم على السفارة السعودية عام ١٩٨٧ والهجوم على السفارة البريطانية عام ٢٠١١ والهجوم على السفارة والقنصلية السعودية في مشهد وطهران.
يفهم من ممارسات النظام الايراني انه قائم على مبدأي التخويف والترهيب. تخويف الناس والتنكّر لحقوق الانسان، ثم الارهاب والتهديد بالتصفية الجسدية والقتل والاغتيال. وقد شهد العالم العربي علميات اغتيال معروفة ارتبط معظمها بمحور «الشر» في ايران.
وبنت ايران لها صورة وهمية بعد ان ادعت انها اصبحت قوة عظمى قادرة على مواجهة وضرب الدول الكبرى، رغم ان قوة ايران العسكرية لم تختبر فعلياً منذ الحرب الايرانية العراقية حيث حاربت صدام حسين خلال ٨ سنوات دون ان تتمكّن من احراز اي نصر عسكري.
واثبتت الصواريخ الاخيرة التي اطلقت مؤخراً على قاعدة عين اسد رغم كل ما اثير حولها انها تفتقر الى الدقة. فحاول الاعلام الايراني الترويج لنظرية التفاهم الاميركي الايراني للحؤول دون وقوع ضحايا اميركيين. لكن الحقيقة ان الصواريخ الايرانية تفتقر للدقة والقدرة علىالتوجيه، كما تفتقر للقدرة النارية، لذا توجه النظام للاستعاضة عن فشله في العراق الى اسقاط طائرة مدنية اوكرانية قيل انها كانت تنقل ضباطاً ايرانيين مع عائلاتهم.
يوماً بعد يوم تبدو ان ايران غير قادرة على الانخراط في حرب مواجهة فعلية مع دولة اخرى. لكنها بالمقابل نجحت في قمع شعبها. وكم افواه الفئات المعارضة وملاحقة وتصفية من يرفضون الانصياع لنظام ولاية الفقيه.
بالمقابل نجح الايرانيون في اضعاف جيوش البلدان التي يسعون للسيطرة عليها. فسلّحوا الميليشيات التابعة لهم، لتكون اقوى من الجيوش المحلية، كما يحصل في العراق ولبنان. لذا عمدت قوات الإئتلاف الى تدريب وتدعيم وتسليح الجيش في لبنان والعراق، لتبديل هذه المعادلة اذ لا يجوز ان تصبح المنظمات المسلحة والارهابية القوة البديلة للجيوش.
– العبرة من الماضي
لقد ارتكب النظام الايراني نفس الاخطاء التي ارتكبها النظام السوري في لبنان. فبعد ان سمحت الولايات المتحدة للرئيس حافظ الاسد تولي مسؤولية ادارة لبنان، ظن الرئيس السوري انه قادر على قضم لبنان وضمه الى سوريا. فجاءت حادثة اغتيال الرئيس الحريري لتخرج سوريا من لبنان، وترغم النظام السوري لاحقاً على دفع ثمن الاخطاء التي ارتكبها بحق الشعب اللبناني وتمنعه عدم الالتزام بالأمانة التي منحت اليه.
اليوم، ومع تصفية قاسم سليماني، باعتقادي ان عملية معاقبة ومحاسبة ايران على ما ارتكبته في المنطقة، قد بدأت بالرغم ان العالم الغربي استفاد بطريقة غير مباشرة من دخولها الى العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، اذ حوّل النزاع فيها الى نزاع سني -شيعي، ساهم في دفع العالم العربي الى احضان اسرائيل.
لا شك ان العالم العربي يواجه منذ عقود اغرب الصراعات الدولية على ارضه: صراع اميركا وحلفائها ضد روسيا وحلفائها.
ساحة الصراع هي ارض عربية،
ضحايا الصراع هي الشعوب العربية وزيادة تخلفها.. اسباب الصراع، حماقة وجهل وغياب الوطنية لدى العرب.
والغريب ان العرب يمولون هذا الصراع الذي يدمّر اقتصادهم، يهجّر شعوبهم ويقضي على ثرواتهم.
المستفيد الوحيد هو اسرائيل التي تنعم بالأمان والازدهار والتطور التكنولوجي والتفوّق على العرب في مختلف المجالات.
فهل فعلاً تعمل الفصائل الايرانية داخل الدول العربية على تحرير القدس، ام انها توفر لاسرائيل فرص الحياة الآمنة، على حساب مصالح ووحدة وتطور العرب؟