شهد القصر الجمهوري في بعبدا، الأحد الماضي مظاهرة حاشدة لدعم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولتأييد ورقته الإصلاحية لمكافحة الفساد.
وسعى منظمو هذه المظاهرة إلى إنجاحها شعبياً، فاستعانوا بأكثر من صديق وحليف، حتى من خارج الحدود. فالمطلوب هو الإيحاء أن الشعب يدعم العهد، ويؤيد طروحاته السياسية، وهو اليوم يجدد ولاءه له وثقته به. وإن رئيس البلاد لن يخضع لضغوطات الشارع الآخر، المطالبة بمحاسبة وسقوط الجميع، وأن مقولة «كلن يعني كلن» لن تشمل العهد، ولن تثنيه عن متابعة وتحقيق عملية «الإصلاح والتغيير» التي طالما نادى بها العماد عون سابقاً، والتي اصطدمت بالطبقة الفاسدة التي تتحكم بالقرار السياسي وتنهب خيرات البلاد منذ عشرات السنين، حسب ما يدعيه وزراء التيار وكرره مسؤولون مشاركون في المظاهرات.
التعليقات والآراء التي طرحها بعض المشاركين في مظاهرة بعبدا بدت أحياناً وكأنها أعدت مسبقاً للرد على مطالب وشعارات الحراك الشعبي في الطرف الآخر.
-مظاهرتان مختلفتان:
كان بديهياً أن مظاهرة بعبدا جاءت لتدعم شخص، بينما المظاهرات الأخرى التي عمت لبنان كانت لدعم مطالب الشعب وتطرح قضايا الوطن. الأولى كانت تقليدية عندما هتف المتظاهرون «للزعيم»، فيما يهتف الشعب في المظاهرات الأخرى ضد فساد الطبقة الحاكمة ويدعو إلى انقاذ الوطن.
مظاهرة بعبدا طالب خلالها المتظاهرون بضرورة الالتفاف حول شخص ونهج رئيس البلاد وتياره، فيما يطالب الشعب في المظاهرات الاخرى بمحاربة الفاسدين وابعادهم عن السلطة، والانقلاب التدريجى عن المنظومة السياسية الفاسدة بأكملها.
الفرق بين مظاهرة بعبدا وانتفاضة الشعب هو بسيط، لكنه يحمل دلالات عميقة. فانتفاضة الشعب التى تستمر منذ 17 تشرين الأول، جاءت كتعبير عن معاناة كل مواطن، وتحولت إلى صرخة وطن من أجل إنقاذ كل الوطن، بينما جاءت مظاهرة بعبدا لتعيد تكريس الوطن على قياس الزعامات.
للأسف الشديد، لقد نقلت مظاهرة بعبدا رئيس الجمهورية، من موقعه القيادى كرئيس كل لبنان، وحولته إلى رئيس تيار سياسى.
لقد جعلته فريقا بعد أن كان الشعب يأمل منه أن يكون حكماً وأباً لجميع اللبنانين.
الحراك الشعبى حافظ على زخمه وديمومته رغم كل محاولات القمع والتهديد والاتهام بالعمالة، وبث الإشاعات، ورغم قساوة الطقس ولا مبالاة الطبقة الحاكمة والانقلاب المتصاعد ضد هذا الحراك.
المنظومة السياسة الفاسدة تواجه يوماً بعد يومٍ صفة عدم الشرعيّة أو صحة التمثيل لإرادة وطموح الشعب، بعد أن تأكد هؤلاء أن هذا الحراك الذى استخفوا به وسعوا إلى استغلاله منذ الأيام الأولى، أصبح قوة فعليّة قد تؤدي مواجهتها إلى افتعال حرب أهلية جديدة في البلاد.
فانتفاضة الشعب، على عكس مظاهرة بعبدا، حدودها هى بمساحة لبنان، ولا تقتصر على بعض الشوارع في «بعبدا». لذا سارعت القيادات التقليدية الى شد عصب مجموعاتها الطائفية والمذهبية لمواجهة المد الشعبي الجارف.
كثر بين متظاهري بعبدا أيدوا أحقية المطالب الشعبية، وأقروا بفساد الطبقة الحاكمة.
وذهب البعض الآخر أبعد من ذلك، إذ اعتبروا أن طروحات وشعورات الشعب الثائر هي بالواقع طروحات الرئيس عون، وهي في صلب سياسته الإصلاحية.
-رئيس الجمهورية:
في الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية أمام جمهور المتظاهرين، أقر مرة أخرى ان الشعب اللبناني يعيش عوزاً وأن حقوقه مفقودة وأنه فقد ثقته بدولته، وهنا تكمن المشكلة التي يجب معالجتها لإعادة ثقة الشعب بدولته.
ولا شك أن رئيس البلاد يدرك خطورة الواقع الحالي الرديء بعد أن كثرت الساحات التي لا يجب أن تكون ساحة ضد أخرى، وتظاهرة ضد أخرى.
ودعا رئيس الجمهورية إلى توحيد الساحات، لأن الفساد المتجذر لا يذهب بسهولة ولا يمكن محاربته إلا عندما يساعد الشعب أهل الحكم على تحقيق ذلك.
فهل سيصغي اللبنانيون إلى دعوة الرئيس عون ويوفروا له الدعم الضروري لمكافحة الطبقة السياسية الفاسدة، أم ان الشعب فقد ثقته بجميع أطراف هذه الطبقة ويطالب بالإصلاح، خارج المنظومة السياسية الحالية؟
فاين تكمن المشكلة التى يتجاهلها أهل الحكم، ويسعى إلى توجيه الحراك الشعبى لخدمة مصالحة السياسية؟
-العماد عون «بي الكل:
الشعب اللبنانى الذى وضع آماله برجل «الإصلاح والتغيير» والذى تمنوا أن يكون رئيس الجمهورية فعلا «بي الكل»، فوجئوا أولا بأول أن العماد عون لم يلغِ «اتفاقية مار مخايل» بعد أن وصل الى سدة الرئاسة.
ورقة التفاهم هذه التى ساهمت بوصوله إلى بعبدا بعد ما يزيد على سنتين من تعطيل البلاد، أسقطت تلقائيا عنه صفة «بى اللبنانين»، بعد أن وضع عهده في المحور الإيرانى، المعادي لعروبة لبنان ولمصالحه القومية.
هذا المحور الذى ينقسم حوله اللبنانيون والذى لا يخدم المصالح الوطنية، على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية، ويربط لبنان بالهلال الإيرانى، هو باعتقاده في جوهر النزاع الحالي الذي يشهده لبنان، وسوف يؤثر على مصير شعبه وعلى مستقبل الوطن بأسره.
انقسم اللبنانيون بين حلفين متنافرين ومتخاصمين إلى أقصى الحدود، فالخيار الإيرانى، الذي مال إليه العهد، دفع لبنان إلى العزلة العربية وإلى معاداته من قبل الغرب، رغم أن مصالح اللبنانين هى مباشرة مع العالم العربى، وخاصة مع دول الخليج التى تعتبر أن المدّ الإيرانى يهدد وجودها. فأموال الخليج غالباً ما كانت تودع في مصارف لبنان، والجامعات اللبنانيةتستقطب شبابهم. كما ان لبنان يوفر لهم مساحة من الحرية ومنفذاً نحو العالم.
كما يدخل لبنان، من عمل شبابه ورجال الأعمال اللبنانين، ومن السياحة العربية مليارات الدولارات سنويا.
فالواقع الاقتصادي الرديء يعود في قسم من أسبابه إلى عزلة لبنان عن محيطه، كما يعود إلى ثقافة نهب المال العام، وإلى استخفاف الطبقة الحاكمة بعقول المواطنين وإلى غياب الشعور الوطني لدى المستفيدين من نظام المحاصصة والتسلط. فتصرفوا وكأن لبنان هو على شفير الهاوية، وعليهم أن يغرفوا ما أمكن من ثرواته، قبل الانهيار العظيم.
-نصرالله وباسيل الخطوة الاستباقية:
لا يختلف إثنان أن وجود ومصلحة إسرائيل هى أولوية بالنسبة للولايات المتحدة ولدول القرار في العالم .
وأن هذه الدول هى معنية بمستقبل ومصير هذه الدولة، حتى ولو أدى ذلك إلى خلق «شرق اوسط جديد» وإلى تعميم مفاهيم «الثورة الخلاقة» والى تطويع الدول الممانعة.
نظرة سريعة على ما جرى ويجري في الشرق الأوسط تؤكد هذه النظرية. وعوض أن يلجأ اللبنانيون إلى تحييد وطنهم عن النزاعات المدمرة انخرط قسم منهم فيها ولعبوا أدواراً نشطة في أكثر من بلد مجاور في المنطقة. لذا كان شعار «النأي بالنفس» مجرد تلميع لصورة لبنان في الخارج، ومحاولة تطويع المكونات الاجتماعية في الداخل. كان المطلوب تحييد لبنان عن النزاعات. لكن لبنان يفتقر لإرادة الأحرار والوطنين والشجعان الذين لا يخشوا مواجهة المخاطر من أجل إنقاذ الوطن وحمايته.
وليس سراً أن تقارير ورسائل عديدة وصلت إلى المسؤولين اللبنانين أن شيئاً ما يعد لتفجير الأوضاع الداخلية، ولإبطال منظومة «جيش وشعب ومقاومة».
وقد تسلم الرئيس عون رسالة مباشرة من وزير خارجية الولايات المتحدة تطالبه بذلك، وإلا فإن لبنان متجه نحو الفوضى والحرب الأهلية.
ويذكر مظفر قاسم حسين، وهو أستاذ العلوم السياسية في قسم العلاقات الدولية والأمن الدولى أن «الولايات المتحدة انسحبت من سوريا لتفتح ملفاً جديداً في الشرق الأوسط، وهو لبنان وتحديداً حزب الله. وأن الرئيس ترامب أعطى وعداً لإسرائيل بتفكيك حزب الله، حتى ولو كان ذلك على خراب لبنان، ليصبح اللبنانيون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما لبنان أو حزب الله…»
وعوض أن يعالج المسؤلون في لبنان هذه التهديدات بجدية ومسؤولية قصوى، يبدو أن وزير الخارجية جبران باسيل، الطامح للوصول إلى رئاسة البلاد بأي ثمن، وان زعيم حزب الله السيد حسن نصرالله، الذي استشعر هذه المخاطر يرى انه والحزب يواجهان مصيراً مجهولاً وقلقاً متزايداً حيال الحصار الاقتصادي والتآمر المخطط له.
لذا قرر باسيل ونصرالله الانقلاب على الحكم والتخلص من الخصوم السياسين، مثل زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع وزعيم المختارة جنبلاط وسائر الرموز المناهضة لإيران ولباسيل. ولا بد من التذكر أن حزب الله والعهد والرئيس الحريري، أيدوا في الأيام الأولى «الانتفاضة الشعبية» باعتبارها تخدم خطة الاستيلاء على النظام والتخلص من الخصوم السياسين على الساحة اللبنانية.
لكن الأمور انفلتت من يد حزب الله وتجاوزت طموحات جبران باسيل وتحولت كرة الثلج الصغيرة إلى جبل من الجليد، بدأ من المعطيات الميدانية وضرب كل التوقعات، بعد ان شملت المظاهرات كل المناطق اللبنانية.
لذا جاءت مظاهرة بعبدا لتعيد بعض الشرعية الشعبية لرئيس الجمهورية ولزعيم التيار جبران باسيل، بعد أن تحول الأخير إلى هدف أولي لغضب الشعب الثائرفي شوارع ومدن لبنان.
-ماذا بعد مظاهرة بعبدا؟
لا شك أن مصير الوطن سيتأثر بالقرارات التي ستتخذ في الأيام القليلة القادمة. الشعب الثائر عرض مطالبه. رئيس الجمهورية دعا إلى توحيد الساحات من أجل الإصلاح.
والحقيقة المرة أن عامل الثقة أصبح مفقوداً بين الشعب والمنظومة السياسية.
لكن من الأفضل أن تتحول الثورة إلى عامل وقوة تغيير قبل أن يتحول الوطن إلى ساحة حرب مدمرة.
المسؤولية الأولى تقع على المنظومة السياسية بكاملها، وعلى رأسها رئيس الجمهورية.
فلا بد من تأليف حكومة إنقاذ من خارج هذه المنظومة الفاسدة لإستيعاب غضب الشارع. ولا مانع أن تطعم ببعض السياسيين الذين لا يثيرون نفوراً في نفوس المواطنين.
خلال أيام الاعتصامات، سقطت كل المحرمات وجرى الكشف عن وجوه وقادة الفساد في البلاد. وليس صعباً الآن اختيار وزراء نظيفي الكف إلى جانب حكومة اختصاص تسعى للحؤول دون انجرار البلاد إلى الخراب والانهيار الاقتصادي.
وعلى حزب الله أن يتخلى بدوره عن مساعي «فرسنة لبنان» وتحويله إلى دولة إسلامية ولنتذكر جميعاً أن لبنان لم ينعم بالسلام، إلا خلال السنوات التي قبل فيها اللبنانيون أن يضعوا لبنان أولاً و يتعاملوا فيما بينهم بروح المساواة.
الشعب اللبناني تخطى عقد الخوف وتعالى ولاءاته الطائفية والمذهبية والسياسية، وعلى السياسيين، وفي طليعتهم حزب الله، أن يلاقوه إلى منتصف الطريق.
لأن الأوطان لا تبنى إلا بالتضحيات، ولبنان لن يقوم أو يتعافي إلى عندما يتعاطف ابن الشمال مع ابن البقاع والجنوب والعكس صحيح. وعندما يقتنع كل اللبنانيين أن لبنان هو وطن نهائي للجميع، ولا فضل للبناني على آخرإلا بمقدار ولائه للوطن ومحبته لسائر اللبنانيين.
ولن تستقيم الأمور في «لبنان الوطن» قبل ان يقتنع اللبنانيون ان زعماءهم ليسوا أغلى وأهم من «حبة تراب» من أية بقعة في لبنان الـ10452 كلم، لان كل حبة نحمل في طياتها الكثير من الدم والعرق والتضحيات التي لن يمحوها التاريخ. فلماذا يبذر بها السياسيون المفسدون؟