لا ينكر احد ان استراليا، كما لبنان والعالم بأسره يشهدون تحولات كبرى نتيجة لسن القوانين الجديدة التي ستفرض تحولات جذرية، ليس فقط في نمط حياة الشعوب، بل في مبادئهم الاخلاقية والإيمانية وعلاقاتهم الاجتماعية، وفي مفاهيم المواطنة بشكل عام.
خلال حوار مع الأب الدكتور لويس الفرخ، اكد الرئيس السابق لدير مار شربل في سيدني ، ان الأمم المتحدة ستعمد الى تطبيق برنامج الحكومة العالمية خلال عام 2020 بعد ان توصلت النخبة المسيطرة على العالم من خلال احكام سيطرتها على المال والاعلام والقرار السياسي. ويمكن الاستخلاص ان من وصلوا الى سدة الحكم في الدول هم اشخاصاً ينتمون لهذه المجموعة، يطيعون اوامرها، ويلتزمون بتنفيذ الأجندة التي وضعت لهم.
وبالتالي، مَن يحكمون الدول ليسوا بالتالي الأفضل بين المواطنين، والأكثر نظافة كف وكفاءة ووطنية. لأن المجموعة الحاكمة تسمح بوصول من لديهم سجلات حافلة وماضي مهترئ بسبب الفساد والممارسات المشبوهة. بهذا يمكن التحكم بهم من جراء التهديد بكشف ماضيهم ودفع الشعوب لمحاكمتهم والتخلص منهم، عند الاستقواء على مَن سمحوا بوصولهم الى المقامات المرموقة والى مواقع القرار.
ومَن يشذ على هذه المعادلة، لن يسمح له بالحياة. هذا ما حدث مع عائلة كنيدي في الولايات المتحدة، كما حدث بالمقابل مع معظم القادة العرب وزعماء دول اميركا اللاتينية.
– النظام العالمي الجديد
كثيرون اليوم يدعمون مشروع اقامة نظام عالمي جديد بحجة ان هذا النظام سوف يفرض السلام في العالم. ويمنع الحروب ويضمن حرية الإيمان «المعتدل» ووحدة الإيمان ذات البعد الانساني.
في ظل هذا النظام سيلغى التطرف والتعصب وعدم قبول الآخرين وستفرض مفاهيم المساواة بين البشر، فيصبح العالم فعلاً قرية كروية، يتشارك فيها الناس الخيرات التي تنتجها الدول، ويُمحى الفقر والأمية والقومية العنصرية، ويجرى توفير الرعاية الصحية للجميع، مع افضل سبل الحياة.
قد يكون ذلك بعضاً من الأهداف المثالية الفضلى التي يروج لها وسائل الاعلام والمفكرون الاجتماعيون ودعاة اقامة نظام عالمي جديد.
النظام الجديد ليس نتاج السنوات العشر الأخيرة بل يعود الى عقود، لا بل الى قرون عديدة. ويعتقد البعض انه يعود الى بداية التكوين والى الصراع الأزلي بين الخير والشر وسعي عالم الظلمة الى فرض مملكته على الارض.
لكن مهما تكون الاسباب، فان اقامة نظام جديد، يفرض لا محال التخلي عن الأنظمة القديمة والسائدة، ويتطلب دمار بعضها بطرق واساليب مختلفة.
انظمة تدمرها الحروب، واخرى المجاعات والأزمات الاقتصادية والحيوية، واخرى تدمر بالأوبئة والجفاف وفرض حالة من التخلف والتقهقر الاجتماعية والاخلاقي، فيقبل الناس ما يفرض عليهم من تغييرات، عملاً بمبدأ الضغوطات التحتية التي تنتج تبدلات في الطبقة الحاكمة.
– المثال اللبناني
ما يحدث في لبنان منذ عقود ليس بعيداً عن مشروع اعادة هندسة المنطقة والعالم.
لبنان، الذي طالما مثل صيغة التعايش بين الديانات والمذاهب، بين الشرق والغرب، جرى على مدى عقود تدمير تركيبته الاجتماعية وضرب روح التعصب داخل المكوناته الاجتماعية فيه. من الحرب الى الهيمنة السورية، الى سرقة اموال الدولة وافقار المواطنين.
فماذا بعد؟
ما يجري في لبنان اليوم من ضروب وممارسات تقضي على المؤسسات والدولة، يمكن فهمه على انه الصراع الأخير لتحديد هوية لبنان. قسم من اللبنانيين يريدونه بلداً عربياً غربي الميول، وآخرون يرغبون بضمه الى التحالف الروسي – الصيني – الايراني الذي يرفض ظاهرياً التزلم للولايات المتحدة ولاسرائيل. وفي كلتا الحالتين، يتعرض لبنان الى المزيد من الانقسامات الداخلية والى سيادة الفساد، بعد ان اختصرت الزعامات التقليدية كل الطوائف والاحزاب، واخضع امراء الحرب الناس بواسطة القوانين والتجويع والمحاصصة والتخويف وانتشار السلاح غير الشرعي.
لقد شارف لبنان اليوم على الانهيار الكامل نتيجة لسوء ادارة البلاد ولهيمنة العوامل الاخرى. وفيما تنهار الدولة يسعى بعض الاطراف للانقضاض عليها وتغيير النظام بحجة ان النظام السابق فشل في بناء وطن مثالي يتساوى فيه الناس. غير ان جميع هذه المحاولات ستبوء بالفشل، لأن المطلوب ليس تغيير النظام، بل تعطيل قيام الدولة، ودفع اللبنانيين الى الهجرة وتوطين الفلسطينيين وقسم من السوريين. بذلك يصبح اللبنانيون اقلية في وطنهم. وتضرب لديهم روح الممانعة والتعصب . ويتم معالجة زيول القضية الفلسطينية، والسير في تقسيم بلاد الشام الى دويلات مذهبية. فترتاح اسرائيل وتضمن بقاءها وتفوقها على عالم عربي مجاور ومقسّم، انهكته الحروب، لذا لن تتخلص اسرائيل من حزب الله وسلاحه، طالما هذا السلاح يقدم لها خدمات عديدة، ولو بطرق غير مباشرة ، ولا تزال الحاجة اليه قائمة، لاستخدامه في زعزعة انظمة عربية لا تزال متماسكة.
أليست هذه هي «الفوضى الخلاقة والعالم العربي الجديد» الذي انبأ به جورج بوش الإبن، ووضعت خطته كونداليزا رايس، وتعمل ادارة ترامب على تنفيذه، رغم معارضة الروس ومقاومة ايران، ودخول الصين على خط المواجهة.
وهذا ما تريده النخبة المسيطرة على القرار الدولي.
فالعراق هو في حكم المقسم، وسوريا كذلك رغم كل وسائل الدعم الروسية والإيرانية. لقد تحولت سوريا اليوم الى البلد المريض الذي تنهش في جسدها دول الجوار والدول الطامعة بالحصول على موطئ قدم لها فيه. (روسيا، تركيا، ايران، الأكراد واسرائيل…)
لقد ربط اللبنانيون مصيرهم بمصير دول الإقليم وهم يدفعون الثمن اليوم. فحالة عدم الاستقرار والانقسام الداخلي وعدم معالجة تردي الاوضاع الاقتصادية ومكافحة الفساد يقصد منها تيئيس اللبنانيين ودفعهم اما للإستسلام او الرحيل او القبول بالتغييرات القادمة من الخارج، والتي يعمل اجراء الداخل على فرضها بشتى الوسائل، رغم الشعارات التي يطلقها الزعماء، فهم يعملون نقيض ما يبشرون به. لذا يتمسك اللبنانيون بالشعارات، رغم معاناتهم المأساوية من تردي الاوضاع في البلاد، بانتظار ان تصبح التحولات الكبرى بحكم الواقع.
لذا تشهد الساحة اللبنانية، بالاضافة الى الحالة الاقتصادية الرديئة، تفشي المخدرات ومحاولات التشكيك بالمعتقدات الدينية، ونشر المثلية الجنسية باسم المساواة والحريات الشخصية. كما يجري اضعاف الجيش، بعد ان ضربت هيبة الرئاسة الاولى. ويدرك العارفون ان مثلث الجيش والرئاسة الاولى والبطريركية المارونية تعتبر بالنسبة للمسيحيين اقنوماً ثلاثياً ضامناً لديمومة لبنان.
فهل المطلوب اضعاف الدولة بثالوثها من اجل فرض الدويلة وادخال لبنان في فصل جديد من فصول تدمير الوطن؟
– المثال الاسترالي
في مواجهة اللا دولة وعدم المحاسبة في الحالة اللبنانية، تعتبر استراليا بلد القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية. لكن هل تساعد هذه الحالة المثالية على حماية البلاد في وجه التبدلات الكبرى الساعية الى فرض نظام عالمي جديد؟
اسارع بالاجابة بلا. فقد شهدت استراليا خلال السنوات القليلة الماضية تبدلات جذرية من جراء سن القوانين من جهة، وارعاب الاستراليين من الخطر الصيني الذي يروّج له اعلامياً انه يهدّد الكيان الاسترالي.
استراليا الغنية بثرواتها الاولية والقادرة على الاكتفاء الذاتي، دخلت مرحلة التطويع باسم الحريات.
– الحرية الجنسية وتشريع زواج المثليين، ارضاءً لـ 2،5 بالمئة من السكان الذين يعلنون ان لديهم ميولاً جنسية مثلية. ويجري الاعداد الآن لتحقيق مطالب اخرى، كزواج القاصرين والعلاقات الجنسية مع الحيوانات، بعد ان شرعته السويد مؤخراً.
الخطوة التالية تقضي بتعديل البرامج التعليمية لاعداد اجيال قادمة مهيأة لقبول كل انواع الشذوذ الجنسي.
الأمر الآخر، هو ما جرى الاسبوع الماضي في ولاية نيو ساوث ويلز ، بعد ان اقر البرلمان مشروع قانون تشريع الاجهاض دون اية قيود، ورغم المظاهرات الشعبية في الشوارع وامام البرلمان. وكما اعلن اسقف سيدني للكاثوليك ان استراليا ألغت الاعدام عام 1956 ولكنها اباحت قتل الأجنة عام 2019. ولم يحظر البرلمان حتى المتاجرة بأعضائهم او اجراء الأبحاث عليهم.
هكذا يتحول الانسان مرة اخرى في استراليا الى مجرّد رقم او سلعة، ويفقد قيمته الانسانية. فبعد اقرار قوانين «القتل الرحيم» اقرت كل الولايات الاسترالية قانون قتل الأجنة. فالمستضعفون على الارض، لا حاجة لبقائهم على قيد الحياة، ولا مانع من التخلص مستقبلاً ممن يصبحون قوة غير منتجة وعالة اجتماعية يتكفل النظام بإعالتهم وتوفير الرعاية لهم.
– الحريات الدينية
موضوع الحريات الدينية هو مطروح اليوم على نار حامية، بعد وقوع حادثين لافتين: الاول يتعلق بموقف لاعب الراغبي المسيحي المحافظ اسرائيل فولاو الذي استشهد بالكتاب المقدس ليدين المثليين، والثاني مرتبط بتعليقات المذيع كايلي المسيئة للعذراء مريم. وما رافق ذلك من ردود فعل لدى المسيحيين والمسلمين على حد السواء.
وللمرة الاولى يتشارك المسلمون والمسيحيون معاً بالتظاهر والصلاة معاً احتجاجاً على ما ذكره المذيع كايلي. وهذا امر مستحسن للغاية، لكنه يعكش بالواقع حالة من القلق لدى المجموعات الدينية حول مصيرها في هذه البلاد. كما يعكس حالة من عدم الإطمئنان للتشريعات التي تقرها الحكومات وتخالف المنطق والاخلاقيات والتعاليم الدينية.
المعلومات الاولية تشير الى ان الحكومة الفيدرالية لن تسعى الى حظر التجديف وحرية المجاهرة بالإلحاد، بعد ان اعلن وزير الادعاء العام، كريستيان بورتر ان قوانين حماية الحريات الدينية والمتعلقة بالتمييز الديني ليست مصممة لحماية المتدينين، كما فعل المذيع كايلي سانديلاندر او معاقبة المؤمنين، كما حدث للاعب الراغبي اسرائيل فولاو. لذا اعيد فولاو للعب مع فريق استراليا، ولن يطرد كايلي من وظيفته بسبب اهانته للعذراء مريم.
وفيما ستضمن القوانين حق المواطنين بالعبادة، سوف توفر نفس القوانين الحماية للمجموعات الملحدة ان تعبر بحرية عن قناعاتها، دون ان تلاحق قانونياً اية مجموعات، حتى ولو اساءت الى الآخرين.
ويبدو من الخطوط الرئيسية المطروحة ان المجتمع الاسترالي يسير نحو المزيد من الانقسام الداخلي والنزاع العقائدي بحماية القوانين. وليس واضحاً ما ستكون حدود هذه الحريات. وهل سيجري تغليب طروحات الأقلية على حساب الاغلبية العظمى من المواطنين، ام ان المطلوب اسكات الأكثرية لتمرير مشاريع العولمة وفرض برامج جديدة تتخطى المبادئ الديمقراطية ؟
– بين الخير والشر
في 15 آب 2016 نشرت مقالاً بعنوان:
«وحدها العذراء مريم تجمع اللبنانيين» مسلمين ومسيحيين. ويبدو ان ما توقعته منذ ثلاث سنوات بدأ يتكرّس خاصة مع المظاهرات الأخيرة التي شارك بها مسلمون ومسيحيون امام مركز اذاعة kiis في سدني، مما دفع المذيع كايلي الى الاعتذار وطلب المغفرة بسبب اساءته للعذراء مريم البتول، وتحامله على قداستها، وادراكه فداحة الخطأ الذي ارتكبه.
فالنظام العالمي الجديد يشعى الى إلغاء الأديان التقليدية وفرض دين واحد يدعو الى خدمة الانسان ووحدانية العقيدة.
كما يدعو النظام الجديد، المدعوم من جمعية الأمم المتحدة، الى دمار الأنظمة وفرض نظام عالمي جديد، مع لغة عالمية واحدة وعملة موحدة واقتصاد عالمي متكامل، ونظام سياسي موحد للكرة الارضية.
هذا النظام لن يكون بريئاً، كما يعتقد البعض، اذ يرى كثيرون انه يعد العالم لحكم «المسيح الدجال» تحت شعار معالجة المشاكل الكبرى، من حروب، وتبدلات مناخية ومجاعات وغيرها.. لكن تعديل الأنظمة ودمارها لن يتم بالوسائل السلمية، فالحروب والاضطرابات والأزمات المتنوعة هي وسائل تستخدم لارغام الأنظمة على السير في هذه المنظومة.
كذلك يدخل تعديل القوانين ضمن هذه الاستراتيجية الكبرى لفرض التغيير… فما يحدث في لبنان على سبيل المثال، لا يختلف عما يحدث في استراليا ، وان اختلفت الاساليب. فالمطلوب هو التغيير الجذري، ولو على مراحل.
اعود واتساءل كما فعلت سابقاً: هل توحد العذراء مريم بين المسلمين والمسيحيين في العالم ليؤلفوا قوة هائلة في وجه فرض حكومة عالمية واحدة؟
وهل بالتالي ستكتب الغلبة للخير على الشر، اما انه مطلوب خفض عدد السكان في العالم قبل فرض نظام عالمي جديد؟
اختم مع قول مأثور للراهبة القديسة، ام الفقراء تريزا: لا احد فوق ارادة الله. انه يقول للشيء كن فيكون. فلا تقلقوا من تدابير البشر. فارادة الله فوق ارادة كل البشر.